المسرح العربي المجهول - الحلقة الأولى : (مسرحية عايدة)
أ.د سيد علي إسماعيل
ـــــــــــــ
أشارت إدارة مجلة (كواليس) – مشكورة - في ختام سلسلة مقالات (وثائق المسرح الكويتي)، ببداية نشر سلسلة جديدة، تحمل عنواناً مشوقاً، هو (المسرح العربي المجهول)! ومعيار هذه الحلقات هو التحدث عن عروض أو نصوص مسرحية بصورة غير مسبوقة؛ شريطة أن يكون العمل المسرحي مرّ عليه ما يقرب من القرن (100 سنة)!! وربما سيشعر القارئ بتناقض بين عنوان الحلقات ومعيارها بصفة عامة، وبين عنوان الحلقة الأولى، التي سنتحدث فيها عن مسرحية (عايدة) بصفة خاصة؛ وربما سيتساءل القارئ: وهل (عايدة) تُعد مسرحية عربية مجهولة؟! وهل سيقرأ عنها بصورة غير مسبوقة؟! عزيزي القارئ .. أرجو أن تبعد عن ذهنك هذه الهواجس، ولا تطرح مثل هذه الأسئلة الآن .. فتمهل حتى تنتهي من قراءة الحلقة، وفي ختامها، حاول أن تطرح مثل هذه الأسئلة، إن كانت ستدور – أصلاً - في ذهنك!!
عايدة وبدايتها المغلوطة
من المعروف تاريخياً وفنياً – وللأسف بصورة خاطئة – أن أوبرا عايدة مُثلت على مسرح الأوبرا الخديوية عند افتتاحها عام 1869م، بمناسبة احتفال مصر بشق قناة السويس. وهذه الحقيقة الخاطئة مثبوتة في أغلب الكتب والدراسات، التي أرخت للمسرح المصري، وشذ عن ذلك قلة قليلة، منها (صالح عبدون) صاحب كتاب (عايدة ومائة شمعة) المنشور في مصر عام 1973م. وفي هذا الكتاب تحدث المؤلف عن أوبرا عايدة بأنها مُثلت في الأوبرا الخديوية لأول مرة يوم 24/12/1871م؛ أي بعد افتتاح الأوبرا – والاحتفال بقناة السويس – بعامين كاملين. وبناء على هذا فلن أقترب في حديثي من ظروف تمثيل هذه الأوبرا لأول مرة، لأن الحديث سيكون مكرراً، وسأفقد معيار الحلقات، وهو الحديث عن العمل بصورة غير مسبوقة!!
وبناءً على ما سبق، أستطيع القول إن أوبرا عايدة بالفعل كان مقرر لها أن تُمثل في افتتاح الأوبرا عام 1869م، ولكن ظروفاً فنياً حالت دون ذلك! والسؤال الآن: ما هو العرض الذي مُثل في افتتاح الأوبرا يوم 1/11/1869؟! سيندهش القارئ، عندما أقول له: لم تُفتتح الأوبرا بعرض مسرحي تمثيلي، بل تمّ الافتتاح بقصيدة فرنسية تحمل صفات الخديوي من العدل والحلم والشهرة .. إلخ، قام بها مجموعة من الممثلين، وقفوا في نصف دائرة، ووسطهم صورة للخديوي إسماعيل حاكم مصر في ذلك الوقت. وهذه المعلومة نشرتها مجلة (وادي النيل) المصرية في 5/11/1869، قائلة: "حصل أول الافتتاح مع غاية النجاح لنوع التياترو المسمى بالأوبيره .... وبعد العشاء بنحو ساعة من تلك الليلة، كان الجناب الخديوي العالي قد شرف هذا المكان بحضرته. وجلس في الحجرة الخديوية المعدة فيه لإقامته فيما بين حضرة الأمير الإيطالياني وزوجته. إذ كان كل منهما جليسه في تلك الليلة الأنيسة. وتم بذلك الفرح والسرور لسائر الحضور حيث كانوا يجهرون جميعاً على عدة مرات للحضرة الخديوية العلية بطول الحياة. وقد انكشفت الستارة أولاً عن تلحين قصيدة باللغة الفرنساوية كان قد نظمها بعض أدباء الأمراء الأفرنجيين في مدحة الحضرة الخديوية. وقد زان هذا المنظر الجميل صورة أعلى ذاته البهية موضوعة في وسط المجلس على دكة يُحيط بها من اللاعبين واللاعبات ما يتصور في ذاتهم بطريق الرموز الإشارية: العدل والحلم والشهرة وغير ذلك من الأوصاف الجميلة التي تعود على ذاته الجليلة بالمدح ويطول منها الشرح".
بعد يومين من هذا الافتتاح، تمّ عرض أول أوبرا تمثيلية في تاريخ الأوبرا الخديوية، وهي أوبرا (ريجوليتو) المُعدّة عن مسرحية (الملك يلهو) لفيكتور هوجو يوم 3/11/1869، وقد حضرها الخديوي إسماعيل. والغريب - بل والطريف – أن هذا العرض لم يتم بصورة كاملة!! فأثناء التمثيل شب حريق، أدى إلى فرار الممثلين، وتأمين خروج الخديوي حفاظاً على حياته. وهذه الحادثة الطريفة، أخبرتنا بها أيضاً مجلة (وادي النيل)، قائلة: " إن من الأخبار التي يقول المُصغي لها إذا سمعها الحمد لله الذي قدر ولطف. إنه بينما كان الجناب الخديوي المعظم قد شرف مكان تياترو الأوبيره بالأزبكية. وكان كل من اللاعبين واللاعبات يُبدي ما عنده من المهارة ويظهر برهان ما لديه من البراعة والشطارة في اللعبة المشهورة عندهم باسم (ريجوليتو) .... إذا بثورة من الغاز المُوقد في مكان التياترو المذكور، قد قامت وكأن القيامة قد قامت. حيث فزع سائر الحضور وانقطع سلسال الحظ والسرور. وكان أول من أبق من خوف النار وقال إن الغنيمة في الفرار، أبناء الفن ..... وانقطع اللعب وأعقب ذلك .... ما حصل على الخصوص من لدن الجناب الخديوي العالي من التصري بالتأمين حيث خرج من حجرة الخديوية المعدة لإقامته العلية. إذا كان قد شرف مكان تياترو الأوبيره المصرية وجعل بنفسه يطمن الناس ويصيح بأعلى صوته على الثبات والسكون".
عايدة وبدايتها العربية
المعروف أن أوبرا (عايدة) عندما مُثلت لأول مرة في الأوبرا الخديوية عام 1871م، مُثلت بالإيطالية لحناً وحواراً لقصة فرعونية مصرية. وهذا يعني أن الجمهور العربي أو المصري لم يستمتع بها في صورتها العربية، عندما شاهدها لأول مرة، وهذا الأمر، فطن إليه الخديوي إسماعيل، فأمر - الأديب المترجم الصحفي (أبو السعود أفندي) صاحب مجلة وادي النيل – بترجمتها إلى العربية، وتمّ توزيع النص المُترجم المطبوع على الجمهور العربي، ليلة الافتتاح. ومن المحتمل أن الكمية المطبوعة نفذت خلال أيام قليلة، فتم نشر طبعة ثانية من الترجمة. والطبعتان العربيتان النادرتان لهذه المسرحية، جاء على غلاف الأولى الآتي: "ترجمة الأوبيرة المسماة باسم (عائدة)، تأليف المعلم غيزلنسوني [جيزلانزوني] وتوقيع الأوستة ويردي [فيردي]، مصنفة بأمر سعادة خديو مصر. تعريب العبد الفقير أبي السعود أفندي محرر صحيفة وادي النيل – الطبعة الأولى – بمطبعة جرنال وادي النيل بالقاهرة سنة 1288 هجرية [1871م] ". وجاء على غلاف الطبعة الثانية الآتي: " ترجمة اللعبة المسماة باسم (عائدة)، وهي قطعة تياترية من نوع الألعاب المعروفة باسم الأوبيرة (أي التصوير لحادثة تاريخية شهيرة)، تشتمل على مناظر معجبة ومراقص مستغربة، يتخللها أغاني موسيقية مطربة متوزعة على ثلاثة فصول وسبعة مناظر، تأليف المعلم غيزلنسوني وتوقيع الأوستة ويردي، مصنفة بأمر سعادة خديو مصر لقصد تصويرها في تياترو الأوبيرة بمصر القاهرة. وقد حصل اللعب بها بالفعل في الملعب المذكور في موسم (1871 - 1872م)، تعريب العبد الفقير أبي السعود أفندي محرر صحيفة وادي النيل ".
وفي عام 1875م، زار مصر (سليم خليل النقاش) اللبناني – ابن شقيق رائد المسرح العربي مارون النقاش – وشاهد أوبرا عايدة بالإيطالية، ولاحظ اهتمام الخديوي إسماعيل بها، فقام بتعريبها، وتعديل بعض خصائصها، من أجل تحويلها إلى مسرحية بدلاً من كونها أوبرا. وعندما عاد إلى لبنان نشرها في المطبعة السورية في العام نفسه 1875، وأهداها إلى الخديوي إسماعيل. ثم قام النقاش بتعريب مسرحية (ميّ)، وأهداها كذلك إلى الخديوي، وبعض أعيان المصريين، الذين ساندوه وساعدوه فيما يريده من اشتغاله بالتمثيل في مصر. وبسبب هذا النشاط الفني، والإصرار على العمل، وافق الخديوي إسماعيل على قيام سليم خليل النقاش بتكوين فرقة مسرحية لبنانية، والقدوم بها إلى مصر لعرض مسرحيات باللغة العربية لأول مرة. وهكذا تقلد سليم النقاش ريادة المسرح العربي في مصر دون منازع!! وهذه حقيقة تاريخية، تخالف الحقيقة المغلوطة، التي تقول إن يعقوب صنوع هو رائد المسرح العربي في مصر! وهذا الأمر كتبت فيه كثيراً، وأثبت هذه الحقيقة بالأدلة والوثائق، وحتى الآن لم يستطع أي باحث أو ناقد إثبات دور صنوع المزعوم في ريادته للمسرح العربي في مصر، ومازال الباب مفتوحاً – على مصراعيه – لمن يُدلي برأي مصحوب بدليل دامغ، يُعيد الريادة المسرحية المنزوعة إلى يعقوب صنوع!!
جاء سليم خليل النقاش إلى مصر بصحبة فرقة مسرحية مكتملة، وعرض – في الإسكندرية - مجموعة من المسرحيات العربية من تعريبه وتأليفه، ومن نتاج مسرحيات عمه مارون النقاش، وكذلك من مترجمات صديقه إديب إسحاق، وكانت مسرحية (عايدة) هي درة هذه المسرحيات بلا منازع. وللأسف لم تنجح هذه الفرقة النجاح المنتظر، فتحول صاحبها إلى الصحافة، وترك أمر الفرقة إلى صديقه (يوسف الخياط)، الذي استمر في إدارة الفرقة سنوات طويلة، محافظاً على عرض عايدة كما تركه النقاش.
وقد أخبرتنا جريدة الأهرام في 18/2/1886م، بأن يوسف الخياط كوّن فرقة مسرحية بالاشتراك مع المطرب مراد رومانو، وكانت عايدة من أهم عروض الفرقة الجديدة، وقد عُرضت مراراً على مسرح زيزينيا بالإسكندرية. وفي العالم التالي عرض الخياط مسرحية (عايدة) مرة أخرى في أقاليم مصر، لا سيما مدينة (الزقازيق) بمحافظة الشرقية، وكان هذا العرض مميزاً لحضور مدير (محافظ) الشرقية، ووكيل المحافظة، وبعض قناصل الدول الأجنبية. وقد عرضت جريدة الأهرام في 28/1/1887، وصفاً لهذا التمثيل قالت فيه: "وقد أجاد المشخصون والمشخصات غاية الإجادة فصفق لهم الجميع ونثروا الزهور على المشخصين والمشخصات استحساناً لما أبدوه من رشاقة الحركات ودقة التمثيل وحُسن الإلقاء وخصوصاً رادميس الذي أدهش العقول ورمفيس رئيس الكهنة الذي أعذب وأطرب بصوته الرخيم وعائدة ابنة ملك الحبشة وأمتريس ابنة فرعون وغيرهم".
عايدة والفرق الكبرى
الجدير بالذكر، إن نص مسرحية (عايدة) كما عرّبه سليم خليل النقاش عام 1875م، كان النص الوحيد الذي مثلته جميع الفرق المسرحية طوال أكثر من نصف قرن (50 سنة)، دون تغيير أو تبديل!! وهذا الأمر له أسباب فنية عديدة، منها: قوة العبارة وسلاستها المسجوعة، وفقاً للصنعة اللفظية المقبولة لدى جماهير هذا الزمان. كذلك موضوعها الوطني، الذي يلهب الحماسة والرغبة في الانتصار، لا سيما ومصر كانت تحت الاحتلال. ناهيك عن الديكور المصاحب للأحداث، والمُميز بضخامته وألوانه وتجسيده لعظمة الفراعنة، وكذلك الأزياء وفخامتها وألوانها الزاهية .. إلخ العناصر المشوقة، الضامنة لنجاح العرض في جميع الظروف. هذه الأمور جعلت هذا النص مباحاً ومتاحاً لجميع الفرق المسرحية، بل وكان عرض عايدة يُمثل نجاحاً مضموناً لأية فرقة مسرحية.
الدليل على ذلك أن أبا خليل القباني، عندما جاء إلى مصر عام 1884، عرض أغلب مسرحياته المعروفة في تاريخه، وعندما شعر بأن جمهوره يرغب في رؤية الجديد، لم يجد أفضل من عرض (عايدة) ليقدمه لجمهوره على سبيل التجديد، وقام القباني بهذا الأمر في أول أعوامه الفنية في مصر، عندما مثّل (عايدة) يوم 27/9/1884 – كما أخبرتنا جريدة الأهرام – في قهوة حمام الدانوب بالإسكندرية، وأضاف في العرض فصلاً مضحكاً تفكهةً للجمهور، وهو فصل تمثيلي لفن البانتومايم. وفي عرضه لمسرحية عايدة عام 1890، أضاف القباني في ختام العرض فصلاً غنائياً قامت به العالمة (ليلى الشامية)، كما جاء في جريدة (المقطم) يوم 8/1/1890.
أما فرقة سليمان القرداحي فمثلت (عايدة) كثيراً، ولكنني سأتوقف عند عرضين فقط لما لهما من أهمية: الأول، عرض فبراير 1887، وفيه حدث شيء غريب لم يحدث من قبل! حيث إن عرض عايدة يتطلب عدداً هائلاً من الكومبارس لتمثيل حشود الجنود على خشبة المسرح، وهذه الحشود من الصعب تجسيدها بصورة مقنعة؛ لذلك قام الضابط (ميتشل)، وهو أحد ضباط فرقة الجنود المصرية، بإشراك فرقته في العرض المسرحي خدمة منه لفرقة القرداحي، وكانت هذه الحادثة الأولى من نوعها في اشتراك جنود حقيقيين على خشبة المسرح. وهذا الأمر أسهم في نجاح هذا العرض نجاحاً مذهلاً، وهذا ما أخبرتنا بفحواه جريدة الأهرام في 11/2/1887.
أما العرض الآخر، فكان بعد شهر من العرض الأول، وتحديداً في 11/3/1887، حيث مثل القرداحي (عايدة)، دون حشود الجنود الحقيقيين، ورغم ذلك كان الجمهور مكتظاً في الصالة، والسبب في ذلك هو ابتكار القرداحي لأسلوب فني جديد في جذب الجماهير، وهو إقناع الشيخ سلامة حجازي – المنشد والمطرب المعروف – بوقوفه على خشبة المسرح، لا ليُمثل بل ليلقي قصائده الغنائية على الجمهور بين فصول المسرحية وفي ختامها. لذلك تهافت الجمهور على العرض لا من أجل رؤية تمثيل (عايدة) فقط، بل من أجل سماع صوت الشيخ سلامة حجازي أيضاً!!
إذن فالشيخ سلامة حجازي هو نجم شباك مسرحي بمفهومنا الحالي، والغريب أن هذا المفهوم كان معروفاً منذ أكثر من مائة سنة تقريباً، واستطاع تطبيقه إسكندر فرح، عندما أقنع الشيخ سلامة حجازي بالانضمام إلى فرقته ليكون نجمها الأوحد ومطربها الأشهر. ومن خلال هذا الارتباط بين الإدارة المسرحية الحكيمة لإسكندر فرح، وموهبة التمثيل والطرب لسلامة حجازي، استطاعت فرقة إسكندر فرح أن تنال الشهرة والثبات طوال عقود كثيرة في تاريخ المسرح المصري. وأبلغ دليل على ذلك عرض (عايدة) الذي تمّ يوم 20/9/1892، وأخبرتنا به جريدة (المقطم)، قائلة: " مثّل أمس جوق إسكندر أفندي فرح رواية (عائدة)، فغصّ الملعب بالحضور، وأجاد الممثلون في تمثيل أدوارهم، وخصوصاً حضرة المطرب المبدع الشيخ سلامة حجازي، وكان يمثل دور راداميس فأبدى من أفانين التمثيل ما استوقف الأبصار، وصفق الحاضرون له استحساناً وخصوصاً لما سمعوه من نغماته الشجية، وألحانه التي تحرك العواطف، وتثير الأشجان".
هذه النجومية للشيخ سلامة حجازي، جعلته ينفصل عن فرقة إسكندر فرح، ويكوّن فرقة خاصة به تحمل اسمه عام 1905، وكانت (عايدة) ضمن برنامجه الأسبوعي أو الشهري، وكان يُجدد في عرضها بصورة مستمرة. ففي عرض يوم 18/11/1905، نجده يُضيف في نهاية العرض فصلاً مضحكاً تسرية للجمهور، وفي عرض يوم 18/9/1906، نجده يُضيف في ختامه صوراً متحركة (سينماتوغراف)، وهي عبارة عن أشرطة سينمائية بدائية صامتة، وكان هذا الأمر أول اتحاد بين فني المسرح والسينما، وقد حدث على يد الشيخ سلامة حجازي.
أما جوق عبد الله عكاشة (فرقة أولاد عكاشة)، فقد بدأت عملها عام 1912، بعد أن بُليت (عايدة) وتهالك تمثيلها بين أغلب الفرق المسرحية، وأصبحت محفوظة عند الجمهور، ولا يستطيع أحد التجديد فيها! من هذا المنطلق فكرّ عبد الله عكاشة في التجديد، فلم يجد سوى استيراد ملابس زاهية جديدة من أوروبا، وكذلك تصنيع ديكورات جديدة، من أجل عرض المسرحية بصورة جذابة أمام الجمهور، كما حافظ عكاشة أيضاً على أهم عنصر في نجاح العرض، وهو وجود صوت الشيخ سلامة حجازي، حتى ولو بين الفصول، أو أثناء التمثيل. وعن هذا العرض قالت جريدة (الأهالي) يوم 17/12/1913: "سيمثل بتياترو الهمبرا جوق الممثل البارع عبد الله أفندي عكاشة في مساء السبت 3 يناير سنة 1914 رواية (عائدة) الشهيرة بعد أن استحضر جميع الملابس اللازمة لها من أوروبا بما يزيد عن مائة وخمسين منظراً، وستظهر لأول مرة على المراسح العربية بثوبها القشيب ومنظرها المبهج، وسيكون جميع الجوق المؤلف من سبعين ممثلاً حاضراً في هذه الليلة، وستكون المناظر جميعها جديدة لم يسبق استعمالها. وسيطرب الحضور في خلال التمثيل بلبل مصر وأستاذ التمثيل العربي في هذه الديار حضرة الشيخ سلامة حجازي".
وهكذا ظل الشيخ سلامة حجازي نجم الغناء المسرحي الأوحد، لا سيما في عروض مسرحية (عايدة). وظلت هذه النجومية ملازمة للشيخ حتى بعد مرضه بالفالج (الشلل)، وأصبحت فرقته على وشك الانهيار. ويشاء القدر أن تتعرض فرقة جورج أبيض إلى فتور في عروضها في تلك الفترة، ففكر أبيض وحجازي في ضمّ فرقتيهما معاً في امتزاج فني غير مسبوق، وأُطلق على هذا الامتزاج اسم (جوق أبيض وحجازي)، وهذه الفرقة ضمت جميع أفراد الفرقتين، وكانت البطولة مُقسمة بين جورج أبيض وسلامة حجازي. فعلى سبيل المثال، عندما يُمثل الجوق مسرحية (عايدة)، يقوم جورج أبيض بدور عموناصر، ويقوم الشيخ سلامة بدور رداميس، وظل هذا الأمر مستمراً لمدة عامين، كما أخبرتنا بذلك جريدة (مصر) بتاريخ 27/10/1914.
عايدة والفرق الصغرى
يعلم كل مهتم بالمسرح، وكل عالم بخفاياه، وكل مُلم بتكاليفه .. مدى الانفاق الذي يُنفق على عرض مسرحية (عايدة)، خصوصاً الديكور والملابس .. إلخ، وهذا الأمر يجعل تمثيل مسرحية (عايدة) حكراً على الفرق الكبرى، التي تحدثنا عنها! ولكن الغريب أن التاريخ لا يقرّ هذه الحقيقة، ويثبت لنا أن فرقاً مسرحية صغيرة - تكاد تكون مجهولة – عرضت (عايدة) عشرات المرات!! ففي يوم 29/6/1891 أخبرتنا جريدة (الفلاح)، أن الجوق الوطني الشرقي برئاسة (أحمد أبو العدل)، مثّل (عايدة) في مسرح شارع عبد العزيز، فأحسن الجوق التمثيل ونال إعجاب الجمهور! وطالبت الجريدة مؤازرة الجمهور لهذا الجوق، والحضور لرؤية عروضه كل يوم أربعاء وجمعة من كل أسبوع!!
وتعليقي على هذا الخبر، أن هذا الجوق ما هو إلا جوق مؤقت لا يعمل إلا في أجازة الفرق الكبرى!! فأحمد أبو العدل هو أحد ممثلي فرقة إسكندر فرح، ومسرح شارع عبد العزيز هو مسرح فرقة إسكندر فرح!! ويوما الأربعاء والجمعة أيام أجازة فرقة إسكندر فرح الأسبوعية!! وهذا يعني أن الممثل (أحمد أبو العدل) كان يؤجر هاتين الليلتين لمصلحته الشخصية، وبالتالي يستخدم المسرح وأعضاء الفرقة والديكورات والأزياء لإقامة حفلات خاصة باسم (الجوق الوطني الشرقي).
أما جوق جمعية السرور، فكان من أشهر الفرق المسرحية الصغرى، وكان مديره ميخائيل جرجس يتنقل به في أقاليم مصر، حيث يُقيم شادراً (ما يشبه خيمة السيرك) في أي مكان فسيح، وفيه تُقيم الفرقة عروضها المسرحية. الغريب أن هذا الجوق استطاع تمثيل مسرحية (عايدة) في مدينة الفيوم يوم 20/3/1892، والأغرب أن جريدة (السرور) أشادت بالعرض قائلة: " قدم إلينا جوق جمعية السرور بإدارة حضرة الأديب ميخائيل أفندي جرجس فمثل بيننا عدة روايات أدبية أشهرها رواية (عائدة). وقد مثلها أمس بحضور كثيرين فأجاد الممثلون والممثلات بأدوارهم من حسن الإلقاء وبراعة التمثيل سيما حضرة محمود أفندي رحمي ممثل دور رداميس رئيس الكهنة وحضرة الخاتون الفاضلة لطيفة ممثلة دور عائدة مما اضطر الحاضرون لاستعادة عدة أدوار مهمة يتخللها تصفيق الاستحسان".
ومن الفرق الصغرى التي مثلت مسرحية (عايدة)، الجوق الأدبي الوطني لفارس صادق، ومثلها على مسرح البوليتياما في مارس 1892، وجوق سليمان الحداد في إبريل 1893، وجوق الاتحاد لعوض فريد، ومثل (عايدة) في مركز منيا القمح في مارس 1906، ومثلها أيضاً جوق الشيخ عطية محمد في تياترو برنتانيا في يونية 1920.
عايدة بين الخير والشر
بسبب شهرة مسرحية (عايدة)، وإقبال الجمهور عليها في كل زمان ومكان، كان عرضها ورقة رابحة، وهذا الربح هو هدف الجمعيات الخيرية، التي ترغب في جمع الأموال من أجل تحقيق أغراضها الخيرية. ومن هذا المنطلق قررت جمعية اقتباس الآداب الخيرية إقامة ليلة خيرية في مارس 1887، تُمثل فيها مسرحية (عايدة)، ويعود عائدها المادي إلى خزينة الجمعية، هكذا أخبرتنا جريدة (الأهرام) يوم 8/3/1887. وعلى غرار هذه الحفلة الخيرية، احتفلت الجمعية الخيرية الصهيونية بليلتها الخيرية في الأوبرا الخديوية في ديسمبر 1901، وفي هذه الليلة عرضت الجمعية مسرحية (عايدة)، وخُصص إيرادها لصالح تلاميذ المدرسة الصهيونية المجانية في مصر. وهذا الخبر نقلته إلينا جريدة (المؤيد) يوم 22/12/1901.
والملاحظ أن الخبرين السابقين، يعكسان لنا مدى الخير الذي تجلبه العروض المسرحية، لا سيما مسرحية (عايدة)، هذا لو تم الاستفادة من الفن المسرحي بشكل صحيح! لأن من الممكن الاستفادة من العروض المسرحية بصورة سيئة، وهذا ما أخبرتنا به جريدة (المؤيد)، قائلة في 8/2/1911: " اجتمع جماعة من الشبان وألفوا جمعية وأطلقوا عليها اسم جمعية (الرشاد) وأنها ستقوم بتمثيل رواية (عايدة) بدار التمثيل العربي ليلة 20 ديسمبر الماضي. ووزعوا على الناس تذاكر تبيح لهم حضور تمثيل هذه الرواية، ولما ذهب الناس إلى محل التمثيل لم يجدوا شيئاً فأبلغ بعضهم قسم الأزبكية الذي عمل التحريات اللازمة واتضح له من التحقيق الذي أجراه أن الذين ألفوا هذه الجمعية هم بندور، وفرالي، وإسكندر كوعة، وشحاتة خاطر، ويوسف أسطفانوس، وتوفيق يوسف، واعتبر البوليس هذه الحادثة من قبيل النصب والاحتيال وكتب محضراً بذلك وأرسله إلى النيابة لإتمام التحقيق".
عايدة الكوميدية
كان من المفروض ذكر قصة (عايدة) في بداية المقالة؛ ولكني أرجأت الأمر لأهميته في هذا الموضع! فمسرحية (عائدة)، تدور أحداثها في العصر الفرعوني، حول أسرّ عائدة ابنة ملك أثيوبيا، وقيامها بخدمة الأميرة المصرية أمنيريس، وأن الاثنتين تتنافسان في حب الضابط راداميس، رغم حبه لعائدة دون الأخرى. ومن الأحداث نجد أن أثيوبيا تُغيّر على مصر، فيطلب فرعون من راداميس قيادة الجيش، مع تمني عائدة له بالانتصار على أبيها وجيش وطنها. وبعد ذهاب راداميس تختبر الأميرة أمنيريس شعور عائدة له، فتخبرها بنبأ موته في المعركة، ثم تنفي لها الخبر بعد أن علمت بحبها له. ويعود راداميس منتصراً ويجر خلفه الأسرى، فيقع نظر عائدة على أبيها أسيراً ومكبلاً بالأغلال، رغم تنكره، فيطلب منها أن تكتم خبر حقيقته. بعد ذلك يأمر فرعون بزواج عائدة من راداميس، فيطلب راداميس من فرعون العفو عن الأسرى. وفي لقاء غرامي تذهب عائدة لمقابلة راداميس، فيوقفها والدها، ويطلب منها سؤال راداميس عن طريق الجيش المصري، الذي سيلاقي الأثيوبيين، ولكنها ترفض، فيضغط عليها فتوافق مرغمة. وعندما تلتقي براداميس يخبرها بسر الطريق الذي سيسلكه الجيش، وهنا يظهر عموناصر ويقبض عليه، ويقدم راداميس للمحاكمة، فيحكم عليه بالسجن في قبو حتى الموت جزاء لخيانته؛ ولكن عائدة تسبقه إلى القبو متخفية حتى تلقى معه المصير نفسه، وبذلك تنتهي المسرحية.
ومن خلال أحداث عايدة، يستطيع القارئ الحُكم عليها بأنها تراجيدية مأسوية، يتطلب تمثيلها ممثلين ذي مواصفات خاصة، لتمثيل دور الملوك والأمراء والقادة .. إلخ، ناهيك عن الديكور والمناظر والأزياء .. إلخ، والسؤال الآن: هل يستطيع كاتب أن يحوّل هذه المأساة إلى نص كوميدي؟! وهل تجرؤ فرقة مسرحية على تمثيل (عايدة) تمثيلاً كوميدياً؟! الإجابة : نعم!! حدث هذا عام 1919م، عندما حوّل الكاتب حسني رحمي نص عايدة لسليم النقاش إلى نص كوميدي بعنوان (عايدة الفُلْلّي)، على غرار التعابير المصرية العامية (مساء الفُلّ .. فُلّ عليه .. دي ليلة فُلْلّي .. إلخ)!! هذه المسرحية الكوميدية مثلها (جوق أبو نواس) لصاحبه مصطفى أمين عدة مرات عام 1919، وهو الجوق الذي خرج منه الممثل الكوميدي الشعبي (علي الكسار). والمسرحية عُرضت تارة باسم (عايدة الفللي)، وتارة أخرى باسم (عايدة وبس)، ومرّة ثالثة باسم (عايدة الجميلة)!!
الغريب والطريف أن الجمهور استقبل هذا العمل باستحسان كبير!! فجريدة (المنبر) في أغسطس 1919، قالت عن فرقة أبي نواس: " أخذت هذه الفرقة بنوع جديد من التمثيل الفكاهي لم تسبق إليه هو سبك الروايات التمثيلية التاريخية ذات المغازي المفيدة في قالب فكاهي يروح عن النفس، ولا يذهب بما في الرواية من المرامي الأخلاقية والأدبية". وقالت جريدة (مصر): " نوع جديد من الأوبرا كوميك تفردت به فرقة أبي نواس التي يمدها نفر من كرام السادة وأعيان البلاد بالمال تشجيعاً لها وخدمة للمسرح العربي. ولما كانت رواية عائدة أقدم الروايات العربية التاريخية والتي كان لها الفضل في تشييد الأوبرا السلطانية فقد عمل حضرة الكاتب الأديب حسني رحمي إلى تحويلها إلى هزلية ..... ولا ريب في أن الأمة المصرية ستقبل على هذه الفرقة الراقية ونوعها الجديد إقبالاً يشجع القائمين بالتمثيل الأدبي الفكاهي ويكون قضاءً على كل تاجر من محترفي التمثيل يحتال على العامة وصغار الأحلام بالشائن الخليع من التمثيل غير متقٍ وطناً ولا رباً".
وهذا التشجيع والتعضيد – غير المعقول - من قبل الصحف لتحويل المآسي إلى كوميديات هزلية، له ما يبرره!! ففي هذه الفترة انتشرت المسرحيات الكوميدية الماجنة، خصوصاً مسرحيات فرقة (عزيز عيد). وكفى أن نذكر أمثلة من عناوين مسرحياته؛ ليتأكد القارئ من مجونيتها، مثل: سلفني مراتك، ويا ستي ما تمشيش كده عريانة، وسَكْرة بنت دين ...، وهذه المسرحيات قابلها الجمهور بهجوم شديد، وصل إلى حد التظاهر في الميادين العامة، وهذا يُفسر لنا لماذا وافق الجمهور على تحويل أوبرا عايدة إلى (عايدة الفللي)، كنوع من الكوميديا الهزلية، لتكون سداً منيعاً ضد الكوميديات الهزلية الماجنة!!
عايدة بين الأهرامات وأبي الهول
شاع حديثاً تمثيل (عايدة) بين الآثار الفرعونية الطبيعية، وقد استغل هذا الأمر القائمون على السياحة والثقافة في مصر، حيث بدأ هذا التقليد منذ حوالي عقدين من الزمان، لنسمع ونشاهد تمثيل عايدة بين الأهرامات وأبي الهول، وكذلك نشاهد العرض نفسه بين معابد الأقصر الفرعونية. وانتقل هذا التقليد إلى بعض البلدان العربية والعالمية .. إلخ. وربما يظن البعض أن هذا الأسلوب المستحدث في عرض عايدة، هو أسلوب حديث لم يسبق التفكير في تنفيذه!! والحقيقة التاريخية تقول عكس ذلك!!
ففي عام 1912 قامت شركة الأعياد والحفلات باستغلال أوبرا (عايدة) بصورة فنية جديدة، جذباً للسُيّاح الأجانب لزيارة مصر ومشاهدة (عايدة) في جوها الطبيعي بين أبي الهول والأهرامات، وقد خصصت الشركة موعداً لهذا العرض الفريد، وهو شهر مارس 1912م. كما قامت شركة الترامواي المصرية بتسهيل ذهاب وإياب المتفرجين لهذا العرض. وهذه المعلومات نقلتها لنا جريدتي (المقطم) و(مصر) في فبراير ومارس 1912.
عزيزي القارئ .. أظنك تتفق معي بأنك قرأت عن عايدة بصورة غير مسبوقة!! وما يهمني من هذا هو وصولك معي إلى هدف هذه المقالة، المتمثل في: وجود حقائق تاريخية فنية خفية، يستطيع الإنسان استثمارها في تفكيره أو في كتاباته، وربما تجعله يُعيد التفكير في أمور كثيرة كان يظن في حقيقتها، أو في عدم حقيقتها ... إلى اللقاء في الحلقة القادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق