توظيف الشخصية الدينية في المسرح
يوسف الصديق نموذجاً
ـــــــــ
أ.د سيد علي إسماعيل
أستاذ الأدب العربي الحديث
أولاً : الإطار العام
1 – الموضوع :-
يُعالج هذا البحث موضوع "توظيف الشخصية الدينية في المسرح"؛ متخذاً من شخصية (يوسف الصديق) نموذجاً. ويُقصد بتوظيف الشخصية الدينية، تلك البدايات المبكرة للكتابات المسرحية، التي اتخذت من الشخصية الدينية مادة أدبية تعليمية من أجل تيسير فهمها، طبقاً لمفهوم مسرحة المناهج، كما جاء في تأطير مفهومه للدراسات الحديثة التي صدرت في الثلث الأخير من القرن العشرين. وقد اتخذت الدراسة من الكاتب "تادرس وهبي" نموذجاً لذلك المسرح تحديداً في الأنموذج المُختار، وهو مسرحية (يوسف الصديق) المؤلفة في الربع الأخير من القرن التاسع عشر وبالتحديد عام 1884. وذلك بغية تعقب السمات الفنية لمسرحة المناهج من خلال التحليل القائم على نموذج إبداعي؛ طبقاً لمعايير الدراسة التي يتبناها البحث؛ للتحقق من أهدافه المرجوة.
2 – أهمية الدراسة وأسباب اختيار الموضوع :-
تُعد دراسة مسرحة المناهج من أهم وأحدث الدراسات الأدبية والتربوية والتعليمية، حيث إن المُبدع محكوم فيها بقواعد فنية ومسرحية وأهداف تربوية وتعليمية. إذ هو لا ينقل لنا منهجاً دراسياً نقلاً حرفياً من بطون الكتب الدراسية، ولا هو يُبدع لنا مسرحاً فنياً أدبياً لا علاقة بينه وبين المناهج الدراسية. ولكنه يقوم بمسرحة منهج دراسي محدد ومقصود، ومؤلف قبلاً طبقاً لأهداف تربوية مرجو تحقيقها، فيقوم المُمسرح بإعادة قولبتها في الإطار المسرحي، ليخفف من جفاف المادة العلمية، بهدف تيسير الفهم على الطلاب في تحصيل المادة، وتحقيق الهدف المرجو تربوياً بطريق آخر، وتعميق الأثر العلمي والتربوي عندهم، بالإضافة إلى إكسابهم بعض المهارات العلمية.
ومن ثم فإن أهمية هذه الدراسة، تتمثل في محاولة إلقاء الضوء على بدايات المسرح المدرسي في مصر، وعلى المحاولات الأولى لظهور فكرة العروض المسرحية المتعلقة بأهداف تربوية ودينية، بما تحمله من إرهاص لنشأة فكرة مسرحة المناهج، وصولاً إلى تأليف أول مسرحية مدرسية قائمة على مسرحة المناهج. ونخص بذلك مسرحية (يوسف الصديق) لتادرس وهبي المؤلفة عام 1884، وذلك قبل ظهور الدراسات التنظيرية والتطبيقية لمسرحة المناهج، في الثلث الأخير من القرن العشرين.
ومن ناحية أخرى فإن الدراسة ستحاول أن تميط اللثام عن أحد رواد هذا اللون المسرحي في مصر؛ لتستكشف مدى الدور الريادي الذي يُمكن أن يُنسب إليه؛ بوضعه على محك معايير التأليف في مجال مسرحة المناهج. ومن ثم يُمكن مناقشة ما أقرته بعض الدراسات، من أن مصر عرفت مسرحة المناهج في سبعينيات القرن العشرين([1])، وذلك من خلال ما ستكشف عنه الدراسة من خلال الأنموذج.
3 – الدراسات السابقة :-
لم تُعنَ دراسة سابقة - على حد اطلاعي – بتحليل مسرحية (يوسف الصديق) أدبياً أو فنياً أو باعتبارها مسرحية مدرسية، قائمة على فكرة مسرحة المناهج. غير أننا إذا نظرنا بصورة أشمل إلى الموضوع، فسنجد كتابات محدودة كُتبت حول المؤلف تادرس وهبي، ودراسات عديدة كُتبت حول مسرحة المناهج تنظيراً وتطبيقاً. وإذا تطرقت الدراسة إلى الحديث عن هذه الدراسات، فسيُلاحظ أن بعض كتب التراجم اهتمت بتادرس وهبي، فكتبت عنه عدة أسطر، أبانت فيها عن أهم مؤلفاته ([2])، وهي لا تعدو أن تكون ترجمة للشخصية. ولم يتوقف مؤلف أمام تادرس وهبي من الجهة الأدبية والإبداعية، إلا محمد سيد كيلاني في كتابه "الأدب القبطي قديماً وحديثاً"، إذ يعتبر بحق - من وجهة نظر الدراسة – من الدراسات الجادة، التي كُتبت عن تادرس وهبي باعتباره شاعراً.
والجدير بالذكر أن أحدث كتاب صدر عن تادرس وهبي، أصدره المركز القومي للمسرح والموسيقى في منتصف عام 2005، هو (عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق)، وقد نُشر لأول مرة عام 1885، ثم أعاد المركز نشره مرة أخرى. وقد كُلفت من قبل المركز بكتابة تقديم لهذا الكتاب، فجاء التقديم في شكل دراسة توثيقية بعنوان "تادرس وهبي .. قبطي أزهري حافظ للقرآن الكريم". وفيها اهتم الباحث بكتابات تادرس وهبي، المعتمدة على آيات القرآن الكريم. هذا بالإضافة إلى الحديث عن حياة المؤلف ووصف أكبر قدر من محتوايات مؤلفاته، والحديث عن مدرسة حارة السقائين التي عمل بها تادرس مدرساً وناظراً. كما تطرقت الدراسة إلى نشاطه المسرحي، على اعتبار أن الكتاب المنشور به إحدى مسرحياته ([3]).
4 – المادة عينة الدراسة ومعايير الاختيار :-
إذا كانت الدراسة قد حددت لنفسها مجالاً عاماً في نوع مسرحي محدد هو مسرحة المناهج، فإن الباحث آثر أن يكون أكثر عمقاً في تحديد نقطة مؤطرة، فاختار من تادرس وهبي نموذجاً ثم خطا أكثر تحديداً فاختار له نصاً مسرحياً، تعتقد الدراسة أنه كُتب بأسلوب مسرحة المناهج. لذلك فإن مقتضى البحث العلمي يوجب تحديد المادة، التي من خلالها ستتم معالجة الموضوع بصفة عامة، والنص المسرحي ومؤلفه بصفة خاصة؛ وذلك من خلال ثلاث نقاط كالآتي:
(أ) – المؤلف؛ تاريخه الأدبي والثقافي
وُلد تادرس وهبي في منتصف القرن التاسع عشر، بحارة زويلة بالقاهرة عام 1856 – على وجه التقريب ([4]) - وفي الخامسة من عمره التحق بمدرسة الأرمن بالأزبكية، فتلقى فيها مباديء اللغة الفرنسية ودرس اللغة الأرمنية. وفي العاشرة من عمره التحق بمدرسة الأقباط الكبرى بالأزبكية، فتعلم فيها اللغتين العربية والإنجليزية. ثم تقدم للامتحان النهائي في اللغة العربية والمنطق والبيان، واللغة الفرنسية والإنجليزية، والهندسة واللغة الطليانية. فأجاد تادرس وهبي في الامتحان بشكل، جعل منه ظاهرة متميزة في الأداء والتحصيل، على أقرانه في المستوى ذاته، وكان يرأس لجنة الامتحان رفاعة الطهطاوي ([5]).
وبعد أن تخرج بالمدرسة، عمل مترجماً بنظارة المعارف، ودرس اللغة القبطية على يد برسوم الراهب. كما التحق في هذه الفترة بالأزهر الشريف ([6])، حيث درس كثيراً من العلوم العربية والدينية، مثل الحديث والفقه والقرآن الكريم، الذي حفظه كاملاً، فكان – من وجهة نظر الدراسة - أول قبطي مصري حاملاً للقرآن الكريم في العصر الحديث. بعد ذلك ترك تادرس وهبي خدمة الحكومة، وعمل مدرساً للغتين العربية والفرنسية بمدرسة الأقباط بحارة السقائين ثم ناظراً لها، ثم مديراً لمدرسة الأقباط الكبرى بالأزبكية، ثم ناظراً للمدارس القبطية، حتى أُحيل إلى المعاش عام 1916، ومات عام 1934 عن عمر يناهز الثامنة والسبعين ([7]).
(ب) – النتاج الأدبي والتعليمي
اتسعت ثقافة تادرس وهبي وتنوعت موضوعاته وتشابكت ([8])، غير أن الملمح الرئيس على أسلوبه في كل حقول التأليف، اتسم بالتزام لغة الإنشاء في السجع والتدبيج – ويبدو أنه سمت الأسلوب الأدبي في عصره - حيث ألف تادرس في مجالات مختلفة، منها الأدب والتاريخ والتراجم والتعليم. ففي مجال الأدب نجد له ديوان شعر في المنظوم، ومجموعة خطب في المنثور، بالإضافة إلى كتاب (في فنون الأدب)، إلى جوار كتيب صغير به قصيدة مدح لبطرس غالي باشا وكيل نظارة الحقانية عام 1886، ناهيك عن كتاباته المسرحية، وسيأتي ذكرها فيما بعد.
وإذا انتقلت الدراسة إلى المجال الذي أكثر فيه تادرس وهبي من نتاجه التأليفي، سنجده مجال التاريخ. ففي هذا المجال ألف تادرس مجموعة من الكتب، منها: "الدر الثمين في تاريخ المرشال طورين"، "العقد الأنفس في ملخص التاريخ المقدس"، "بهجة النفوس في سيرة أرتيينيئوس"، "تاريخ مصر مع فلسفة التاريخ"، "عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق"، "الأثر النفيس في تاريخ بطرس الأكبر ومحاكمة ألكسيس".
وفي مجال التراجم، كتب تادرس وهبي كتيبين صغيرين، الأول بعنوان "ترجمة الأمير الجليل المرحوم عريان بيك أفندي" عام 1888، وهو قطعة أدبية في رثاء عريان بك باشكاتب نظارة المالية، الذي توفي قبل صدور الكتيب بأيام قليلة، فأراد تادرس وهبي تخليد ذكراه بهذا الكتيب، الذي جمع فيه معظم المعلومات الرسمية عن المتوفي، وضمنه وصفاً لجنازته ومشيعيه، هذا بالإضافة إلى قصيدة رثاء طويلة، من نظم تادرس وهبي، جاءت بعض أبياتها متضمنة لمعاني القرآن الكريم ([9]). بالإضافة إلى حرصه على أسلوب السجع، الذي التزمه أكثر في كتيبه الثاني في هذا المجال، الذي صدر عام 1895 بعنوان "الأثر الجميل في رثاء جنتمكان أفندينا إسماعيل". وفيه جمع تادرس وهبي تاريخ وإنجازات الخديوي إسماعيل، وصاغ ذلك في شكل خطبة، جاءت كأنموذج للأسلوب الإنشائي المعتمد على بلاغة السجع والتقفية، مستعيناً فيه بمعاني وآيات القرآن الكريم ([10]).
ونصل مع تنوع وغزارة نتاج تادرس وهبي في مجال التأليف، إلى مؤلفاته التعليمية، التي كانت مقررة على طلابه، ومنها: كتاب "الدروس الابتدائية في اللغة القبطية"، وكتاب "التحفة الوهبية في اللغة الفرنسية"، وكتاب "الخلاصة الذهبية في اللغة العربية" عام 1875، وكتاب "مرآة الظرف في فن الصرف" عام 1889.
(ج) – النتاج المسرحي
كان تادرس وهبي يؤلف بعض كتبه في أكثر من مجال. ومن ذلك كتابيه "عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق" و"الأثر النفيس في تاريخ بطرس الأكبر ومحاكمة ألكسيس". فهما كتابان يدخلان في مجال التأليف التاريخي، وفي الوقت نفسه يدخلان ضمن مجال الأدب عموماً، والأدب المسرحي خصوصاً؛ حيث يحمل الكتاب الأول نص مسرحية (يوسف الصديق)، ويحمل الكتاب الآخر نص مسرحية (بطرس الأكبر) ([11]).
وقد حددت بعض المراجع أن مؤلفات تاردس وهبي المسرحية، تتمثل في ثلاث مسرحيات: يوسف الصديق، وبطرس الأكبر، وتليماك. كما قام تادرس وهبي بكتابة فصل بعنوان "في إجمال تفصيل يتعلق بفن التمثيل"، نشره ضمن فصول كتابه "الأثر النفيس .."، تحدث فيه عن نشاطه المسرحي ([12]). ومن خلال هذا الفصل يتضح أن تادرس وهبي قام بتأليف ثم تمثيل مسرحيته الأولى (يوسف الصديق) بمسرح حديقة الأزبكية يوم 15/2/1884، وقد شهد تمثيلها الأميران عباس حلمي الثاني ومحمد علي. كما ألف مسرحيته الثانية (بطرس الأكبر)، التي مثلتها جمعية المساعي الخيرية يوم 15/5/1886 ([13])، واختتم مؤلفاته المسرحية بنص (تليماك) الذي مثلته جمعية المساعي أيضاً يوم 12/4/1887، تحت عنوان (عجائب القدر) ([14]).
وبناء على ما سبق، يتحدد نتاج تادرس وهبي المسرحي، بثلاثة نصوص مسرحية، الأول (يوسف الصديق)، وتعتبره الدراسة مسرحية مدرسية، حيث مثلها تادرس وهبي مع طلاب مدرسته القبطية بحارة السقائين عام 1884 على مسرح حديقة الأزبكية. وهذه المسرحية على وجه الخصوص، لاقت إقبالاً كبيراً من قبل بعض المدارس فيما بعد، فظلت تُمثل من قبل طلاب المدارس القبطية حتى عام 1913 ([15]). هذا خلافاً لمسرحيتيه التاريخيتين (بطرس الأكبر) و(تليماك)، حيث قامت بتمثيلهما الجمعيات الخيرية حتى عام 1912 ([16])، ولم تمثلهما أية مدرسة، تبعاً لما توفر بين يدي الدراسة من أخبار. وبناءً على ذلك، فقد حددت الدراسة مسرحية (يوسف الصديق) أنموذجاً تطبيقياً لمسرحة المناهج. وهو ما يمثل 33% من نتاجه المسرحي على وجه التحديد، في الوقت ذاته تمثل المسرحية المُختارة 100% بالنسبة لنتاجه فيما يتعلق بمسرحة المناهج.
5 – المنهج والأدوات :-
لقد حاول البحث أن يجد لنفسه منهجاً يُمكنه من الوصول إلى أهدافه بيسر ووضوح فاختار المنهج التكاملي، الذي يأخذ بحظ من المناهج الأدبية المختلفة كالفني والتحليلي والتاريخي والنفسي والوصفي، الأمر الذي يُمكن الدراسة من استقصاء الظواهر المختلفة التي تناولها النص المسرحي. وهو ما يخدم أيضاً الأهداف التي تطمح إليها الدراسة. ومن أجل ذلك ستقوم الدراسة بمعالجة عناصر مسرحية (يوسف الصديق)، تبعاً لتعريف ومفهوم وسمات مسرحة المناهج، وذلك في ضوء زمن عرضها وتأليفها عام 1884، قبل أن تُكتب التنظيرات المختلفة، وتصدر الدراسات المتنوعة عن المسرح المدرسي، الذي يدخل ضمن مجاله، ما عُرف فيما بعد بمسرحة المناهج.
6 – أهداف الدراسة :-
إذا كان لكل دراسة علمية أهداف تطمح إلى تحقيقها، فقد اختار الباحث موضوع "توظيف الشخصية الدينية في المسرح"، واتخذ من مسرحية (يوسف الصديق) نموذجاً لها، وعُني بالمنهج والأدوات سالفة الذكر، محاولة الوصول إلى:
أ – استكشاف البناء الفني من خلال النموذج المُختار.
1 – الإطار العام للبناء الفني
2 – السمات الفنية
ب – تبين أهداف مسرحية يوسف الصديق ووسائل تحقيقها.
ثانياً : الدراسة التطبيقية
أ – البناء الفني لمسرحية يوسف الصديق
لاحظت الدراسة أن مسرحية (يوسف الصديق)، منشورة في "كتاب عنوان التوفيق في قصة يوسف الصديق" في خمس وثلاثين صفحة، من عدد صفحات الكتاب البالغ عددها ثمان وثمانين صفحة. والفرق في الصفحات تمثل في: ملخص تاريخ قصة يوسف عليه السلام، ومكانة مصر من قصة يوسف، ومعجم لغوي لتفسير الألفاظ الغامضة. والكتاب بأكمله مطبوع عام 1885 بناء على ترخيص بالنشر من قبل قلم المطبوعات بنظارة الداخلية – كما جاء على غلاف الكتاب– باعتبار أن هذا الكتاب يتحدث عن قصة يوسف عليه السلام، ويجب أن يخضع للرقابة.
1 – أ – الإطار العام للبناء الفني :-
إذا نُظر إلى الشكل العام لمسرحية (يوسف الصديق)، فسيُلاحظ أن تادرس وهبي قسمها إلى ثماني مقامات، وكل مقامة مقسمة إلى فصلين، عدا المقامة السادسة فمقسمة إلى أربعة فصول. كما وضع المؤلف عنواناً مفصلاً لكل مقامة ولكل فصل، ومثال على ذلك المقامة السادسة، وما حوته من فصول وعناوين. فقد جاء عنها الآتي: "المقامة السادسة، في تعرف يوسف عليه السلام بإخوته وفيه أربعة فصول. الفصل الأول، في قدوم إخوة يوسف مع بنيامين من أرض كنعان إلى مصر .. .. الفصل الثاني، في إرسال يوسف عليه السلام وكيله خلف إخوته عقب رحلتهم من مصر .. .. الفصل الثالث، في ما جرى بين الإخوة وبين الوكيل وأصحابه .. .. الفصل الرابع، في وقوف الإخوة بين يدي يوسف عليه السلام وما جرى بينهم وبينه من الحديث في هذا المقام"([17]).
وإذا كانت المسرحية في مفهومها الحديث المتعارف عليه، تتكون من عدة فصول، وكل فصل يتكون من عدة مشاهد أو مناظر، فإن تادرس وهبي وضع مصطلح المقامة بدلاً من مصطلح الفصل، ووضع مصطلح الفصل بدلاً من مصطلح المشهد أو المنظر. ولعل السبب في تقسيم المؤلف لمسرحيته إلى عدة مقامات، راجع إلى مفهوم المقامة في اللغة، والذي يعني اجتماع الناس في مجلس تُلقى فيه الخطب والعظات ([18])، كذلك أهداف المقامات التعليمية للغة في ثوب مشوق. وهو ما يتفق مع هدف تادرس وهبي في المسرحية، وهذا الأمر ستناقشة الدراسة لاحقاً.
أما من حيث عناصر بناء المسرحية، فقد لوحظ أن تادرس وهبي، قد حقق بشكل واضح كثيراً من أساسيات البناء الفني المتماسك للمسرح في العمل، من ذلك:-
تحققت الاستهلالة التمثيلية - أو المقدمة - المتعارف عليها في بناء المسرحية، من خلال حوار يوسف عليه السلام مع إخوته حول حلمه. وفي هذه الاستهلالة قال ممثل يوسف عليه السلام: "إن الحب الأخوي ريحانة النفوس، والسر الذي تسري رقته في الجوانح كحميا الكئوس، بحيث يرتاح الأخ لأن يبايع أخاه بأنبائه، ويتابعه فيما يبديه له من ملاحظاته وأرآئه. فلهذا جئت لأقص حلماً رأيته على أسماعكم، بغية أن أقتبس تأويله من إبداء إبداعكم. أفتأذنون لي في سوق حديثه بنصه، وأن آتيكم أيها الإخوة بالخاتم وفصه" ([20]).
وتجدر الإشارة هنا، إلى أن معنى هذه المقدمة، جاء في التوراة، ولم يأتِ في القرآن الكريم. حيث نصت التوراة على أن يوسف أخبر إخوته بحلمه أولاً، قبل أن يخبر أباه ([21]). أما في القرآن، فقد أخبر يوسف أباه يعقوب أولاً، كما جاء في قوله تعالى: ]إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ[ آية 4 من سورة يوسف.
ومن العناصر المتوفرة في نص المسرحية، لخدمة البناء الدرامي، وجود الحدث الدرامي، الذي تحدثه الشخصيات في حيزي الزمان والمكان، ويسهم في تشكيل الحركة الدرامية والفعل المسرحي. والأمثلة على هذا الحدث كثيرة في المسرحية، ومنها قيام إخوة يوسف بإلقائه في الجب، ثم بيعه إلى بعض التجار. وفي هذا الموقف يقول أحد الإخوة للتجار: "أيها السادة التجار، أولي الشرف والنجار. الذين رزقوا سعة الغنى، وجنوا من رياض السعادة ثمرات المُنى. هل لكم في شراء هذا الغلام البارع الصفات، الجامع في أفعاله لمحسنات البديع وبديع المحسنات. الحريص على التمسك بأذيال القناعة، والتمسك في ابتغاء مرضاة مولاه بالتنسك والطاعة" ([23]).
أما عنصر التطور الذي يختص بتسلسل الحوادث المنطقية ، فهو من العناصر الجلية في المسرحية، حيث إن المؤلف اعتمد في ترتيب حوادث مسرحيته على النص القرآني بصورة أساسية. وكفي للتدليل على ذلك، ذكر عناوين فصول ومقامات المسرحية، ليتبين تسلسل الأحداث المنطقية، كما وردت في القرآن. ومن ذلك على سبيل المثال: عنوان الفصل الأول من المقامة الأولى "في بيع إخوة يوسف إياه، وما حدث بينهم حين قصّ عليهم رؤياه"، وعنوان الفصل الثاني "في بيع يوسف للإسماعيليين"، وعنوان المقامة الثانية "في حزن يعقوب علي يوسف عليهما السلام، وما جرى له مع أبنائه بالتفصيل في هذا المقام"، وعنوان المقامة الثالثة "في ما جرى ليوسف عليه السلام بدار فوطيفار وزير فرعون مصر"، وعنوان المقامة الرابعة "في خروج يوسف من السجن وصيرورته وزيراً لفرعون مصر" .. إلخ هذه العناوين ([25]).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن التعقيد Complication أو عقدة المسرحية play plot الناتجة من تطور غير متوقع في الأحداث، تمثلت في تآمر الإخوة للتخلص من يوسف عليه السلام، مما أدى إلى تغيير مجرى حياته فيما بعد. وهذا التطور جاء على لسان أحد الإخوة قائلاً لهم: "حتى م تغشانا من الذل غمرات، ونتغاضى عن صرائح الحقائق ونصائح الإشارات. ضربت علينا الذلة والمسكنة، وأصبحت سجية الجبن من قلوبنا متمكنة. يمن علينا يوسف برؤياه منا، غير مكتف بكونه أحب إلى أبينا منا. فيا أيها الإخوة، نداء من استفزته الأريحية والنخوة. لقد علمتم أن أبانا لفي ضلال، كما أن أخانا يتهم وينجد في أودية الدلال. فإن آثرتم أن لا تذهب ريحكم، وأن يسير مسير البدر ليلة كماله مديحكم. فاقتلوه قتل أولي البأس، أو ألبسوه من الغربة عن الوطن شر لباس" ([27]).
وإذا كان الصراع الدرامي أساس بناء أية مسرحية، فإن هذا العنصر بارز بدرجة كبيرة في المسرحية، من خلال عدة أشكال. فعلى سبيل المثال نجد صراعاً بين إخوة يوسف وبينه، وصراعاً بين يوسف وبين امرأة العزيز، وصراعاً بين يوسف وبين فرعون، وصراعاً بين يوسف وبين إخوته عندما أصبح يوسف وزيراً. وهذه الصراعات أخذت أشكالاً متعددة، فالصراع بين يوسف وإخوته كان صراعاً نفسياً أكثر منه صراعاً بشرياً. والصراع بين يوسف وبين امرأة العزيز كان صراعاً دينياً أخلاقياً، وكان الصراع بين يوسف وبين فرعون صراعاً اجتماعياً اقتصادياً. ومثال على ذلك، الحوار التالي بين يوسف وامرأة العزيز، والذي يمثل الصراع الديني الأخلاقي، وهو ما صاغه المؤلف شعراً ثم شرحه نثراً، فقد استنطق ممثل امرأة العزيز متغزلة في جمال يوسف عليه السلام، وكاشفة عن صراعها النفسي ولوعتها في الهوى، قائلة:
لك منزلٌ في القلبِ ليس يَحلُّـــــــــــــهُ إلا هواك وعن سواك أجلُـــــــــــــــــهُ
يا من إذا جَليتْ محاسنُ وجهِــــــــــه عَلِمَ العذولُ بأن ظلماً عذلُـــــــــــــــــهُ
الوجهُ بدر هدى جبينك أفقُــــــــــــهُ والشعرُ ليل دُجى يَزينك ظلُــــــــــــــــهُ
هذي جفونُك أعربتْ عن سحرهــا والسحرُ منك نُجلّهُ ونُحلُّــــــــــــــــــــهُ
مثلي كثير في الهوى متهتــــــــــــــــــــكٌ لكنْ جمالُك ليس يُوجد مثلُــــــــــــــــهُ
هل في الورى حسنٌ أَهيمُ بحبِــــــــــهِ هيهاتَ أَضحى الحسنُ عندك كلُّــــهُ
ثم عاد ناثراً لسيتنطق ممثل يوسف عليه السلام، ليكشف عن صراعه النفسي تجاه هذه الأزمة، وما تفرضه عليه قيم عصمة النبوة والأخلاق، قائلاً: "أيتها المترنحة بصهباء الغرام، الغير ناظرة إلى تمييز الحلال من الحرام. كيف أقدم على انتهاك حرمة الأدب وهو من محض أعمال السفهاء، ولا أحجم عن قضاء هذا الأرب وأنا مكتوب عند الله في ديوان الأنبياء. أما المحاسن التي أبدعت في وصفها بلسان الإطناب، وأوقعت نفسك في حبائلها إجابة لداعي عنفوان الشباب. فما هي إلا أعراض تمحوها يد الفناء من صحيفة البقاء، مآل الصورة الآدمية وقت حلول القضاء والنقلة من عالم الأحياء. فيا لها من عظة يتعظ بها الرامق اللبيب، ويعتبر بمصيرها العاشق الذي يعلل النفس بوصال الحبيب. أو ليس أن شعري هو أول ما ينتثر على لحدي، وعينيّ هما أول ما يسيل في قبري على خدي. وهل فاتك أن وجهي الحسن هذا أول ما يأكله التراب، وتعلوه صفرة الموت فتنقلب عن رؤيته أبصار الأتراب. كما أن سائر ما في الجسم يأكله الدود، وأصله من التراب وإلى التراب غداً يعود. معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي، واأتمني من بين عبيده دون سواي. معاذ الله أن أجزيه بدل الخير شرا، وأجيء والحالة هذه شيئاً نكرا. فاستغفري مولاك أنه أقرب للتقوى، وتمسكي من وثيق العفاف بالسبب الأقوى"([29])
لقد رسم تادرس وهبي الشخصية المسرحية بما يتلاءم مع تصوير القرآن الكريم لها، كما جاءت في سورة يوسف عليه السلام – مستعيناً بالبعد الجسماني تارة، وبالبعد الاجتماعي تارة أخرى، وبالبعد النفسي تارة ثالثة. وكمثال على استخدام المؤلف للبعد الجسماني، ما جاء من وصف على لسان امرأة العزيز، أثناء حوارها مع يوسف عليه السلام، قائلة: "وما أجمل محياك الذي فضح البدر ليلة تمامه، وأشد سواد شعرك الدجوجي الذي مد رواق ظلامه. وبالنضرة وجنتيك مع اجتماع ضدين جنة ونار، ونصرة سهام لحظيك في تأييد شوكة الورد شقيقه الجلنار. فامنن بالعطف على هائمة غرامك، وكأنما فؤادها طائر على غصن قوامك" ([31]).
أما البعد الاجتماعي، فالأمثلة كثيرة على استخدامه في رسم الشخصية، من قبل المؤلف. ومن ذلك قول أحد إخوة يوسف عليه السلام للتجار: "أيها السادة التجار، أولي الشرف والنجار. الذين رزقوا سعة الغنى" ([32]) .... إلخ. وكذلك قول فوطيفار، مهدداً يوسف عليه السلام: "من ذا الذي أحب أن يأتي هذا المنكر في بيوت الوزراء، ويجعل نفسه هدفاً لبطش الأمراء" ([33]) .. إلخ. وأما البعد النفسي فقد استخدمه المؤلف في رسم شخصيات كثيرة، منها رسمه لإخوة يوسف عليه السلام بصورة نفسية أثناء تباحثهم في أمر الخلاص من يوسف عليه السلام، وكذلك رسمه لامرأة العزيز بصورة نفسية، عندما راودت يوسف عليه السلام عن نفسها، كما مرّ سابقاً.
VII - الإرشادات المسرحية Stage Directions :
وإذا كانت الإرشادات المسرحية "هي التوجيهات التي يسوقها المؤلف في نص مسرحيته – خلال الحوار – كي يوجه القاريء، أو المخرج، أو الممثل، إلى وجوب تنفيذ حركة ما، أو انفعال، أو صمت، أو تصوير تعليق ما، أو وصف شيء معين أو نحو ذلك" ([34]). فإن تادرس وهبي وضع مثل هذه الإرشادات، ولكن بصورة بدائية، حيث أدمجها في الحوار المسرحي في بعض الأحيان. ومن ذلك مثلاً قوله: "وحينئذ مضى يعقوب عليه السلام فقام أحد أبنائه كأنما نشط من عقال وخاطب إخوته في شأن يوسف وقال .. [وقوله كذلك] ثم رأى بعضهم يوسف قادماً فانتدب يقول .. [وقوله أيضاً] فاستغاث يوسف براؤبين فتشفع فيه لدى إخوته بقوله" ([35]).
وإذا كان المؤلف تادرس وهبي قد نجح بعض الشيء في الحفاظ على العناصر السابقة في مسرحيته، وحقق من خلالها إيقاعاً مسرحياً Rhythm وحبكة مسرحية Plot شكلا البناء الدرامي Structure or Dramatic ([36]) (Dramatical Structure) ليخرج بمسرحيته في صورة متماسكة متكاملة البناء في كثير من جوانبها، فهذا الأمر راجع إلى اعتماده على سورة يوسف عليه السلام، كما جاءت في القرآن الكريم. والتكامل الفكري والوحدة العضوية في هذه السورة، يشكلان أهم العوامل الرئيسية، في إعطاء ميزة خاصة لتلك القصة بين القصص القرآنية الأخرى. حيث تحمل مقدمة وأحداثاً كثيرة في الوسط ثم خاتمة. هذا بالإضافة إلى تنوع شخصياتها كنماذج بشرية متعددة، وتنوع أحداثها وأماكنها وأزمانها ([37]). والأمر الأهم أنها القصة القرآنية الوحيدة التي جاءت متكاملة العناصر في سورة واحدة في القصص القرآني لسير الأنبياء، وهذا التكامل – فيما أظن – أعطى زخماً للمؤلف أن يشكل بناءً متماسكاً عندما استغل الإطار العام للقصة في عمله المسرحي.
2 – أ – السمات الفنية :-
تميز نص مسرحية (يوسف الصديق) بسمات فنية واضحة ومقصودة لدى المبدع، ومنها على سبيل المثال وضعه عناوين لمقامات وفصول مسرحيته. وهذا الأسلوب لم يكن مألوفاً في طباعة المسرحيات في ذلك الوقت. كذلك تعامله مع شخوص مسرحيته، كان تعاملاً غير مألوف في الكتابات المسرحية ([38]). فعلى سبيل المثال نجده يذكر الشخصيات المتحاورة هكذا: قال ممثل يوسف عليه السلام، قال ممثل يعقوب عليه السلام، قال قائل منهم، قال قائل من إخوته – يعني إخوة يوسف - قال أحد أبنائه – يعني يعقوب عليه السلام - .. إلخ. وهذا الأسلوب يبين عن التزام المؤلف بالرقابة الذاتية واحترامه وتقديسه للأديان السماوية، قبل أن تصدر قوانين الرقابة المسرحية، التي حرمت ظهور الأنبياء على خشبة المسرح ([39]). وبناء على ذلك نجد المؤلف يقول (قال ممثل يوسف عليه السلام)، ولم يقل (قال يوسف عليه السلام)، وذلك كي يعطي انطباعاً للمشاهدين أو للقراء، بأن من يقوم بدور يوسف عليه السلام، ما هو إلا ممثل يؤدي الدور فقط.
ومن الأساليب الفنية التي استخدمها المؤلف في مسرحيته بصورة غريبة، شخصية الرّاوية أو الراوي Narrator التي تقوم بالتعليق السردي المباشر ([40]). والسبب في القول بغرابتها، أن المؤلف لم يعطها الدور الملائم لها، ولم يضعها ضمن شخوص مسرحيته. بل جاءت تعليقاتها متداخلة في الحوار، دون تمييزها بأية صورة من الصور المتعارف عليها. مثلاً، أن توضع هذه التعليقات بين أقواس، أو تُكتب بحروف مميزة ومختلفة عن حروف الحوار .. إلخ. ونتج عن ذلك، أن هذه التعليقات من الممكن أن يعتبرها القاريء أنها لشخصية الراوي، أو أنها مداخلات من قبل المؤلف لشرح الموقف، أو أنها تدخل ضمن الإرشادات المسرحية.
ومثال على ذلك، هذا القول: "ومن تلك الساعة أصرّ إخوته على الانتقام منه، وعلق بأفئدتهم الغيظ مما صدر عنه. وما زالوا به حتى أغروه بمرافقتهم، وآنسوه فأنسوه ما تعوّده من مفارقتهم. ثم اجتمعوا بيعقوب عليه السلام فأنزلوه منزلة الإجلال، وخاطبه أحد أبنائه على لسان الكل فقال. يا أبانا دام عزك وبقاؤك .. إلخ" ([41]). وكذلك هذا القول: "ثم مضى إخوته بعد قبض دراهم معدودة من التجار، الذين ذهبوا بيوسف إلى مصر فابتاعه قائد الجند المُسمى فوطيفار" ([42]).
والدراسة ترى أن المؤلف قام بوضع هذه المقاطع السردية، ليحكي عن أحداث من الصعب تنفيذها وإخراجها على خشبة المسرح، فشرحها سرداً ليتصورها المشاهد أو القاريء، ويقيم لها تخيلاً في ذهنه. ومثال على ذلك، الاقتباس السابق الذي يقول: "ثم مضى إخوته بعد قبض دراهم معدودة من التجار، الذين ذهبوا بيوسف إلى مصر فابتاعه قائد الجند المُسمى فوطيفار". فهذه العبارة تحتاج إلى إمكانيات مسرحية كبيرة لتنفيذها على خشبة المسرح، حيث إن أحداثها تدور في مكانين، وكل مكان له ديكوره الخاص به.
من العسير الجزم بأن مسرحية (يوسف الصديق) لتاردس وهبي المؤلفة عام 1884، هي مسرحية مكتملة البناء الفني المتعارف عليه في النصوص المسرحية، وهذا من طبيعة البدايات والريادات في الأعمال الأدبية والفنية. خصوصاً إذا تجرأت الدراسة وقالت إن مسرحية (يوسف الصديق) – حسب ما بين يديها من أدلة - هي أول مسرحية مصرية مطبوعة ومنشورة ومؤلفة بالفصحى من قبل كاتب مصري. أو بمعنى آخر: إن تادرس وهبي يُعد أول مؤلف مسرحي مصري، قام بتأليف وطبع مسرحية مؤلفة باللغة العربية الفصحى عام 1885.
ومن الأدلة على ذلك، إن عروض مسرحي الكوميدي الفرنسي ودار الأوبرا الخديوية منذ افتتاحهما عامي 1868 و1869 كانت عروضاً أجنبية ([43]). وأن مسرحيات يعقوب صنوع – إذا صح وجود نشاطه المسرحي في مصر من عام 1870 إلى عام 1872 ([44]) – مكتوبة بالعامية ([45]). وأن مسرحية (أدونيس) التي مُثلت في مدرسة العلميات عام 1870 كانت فرنسية اللغة وكان مؤلفها فرنسياً، كما أن كتاب محمد عثمان جلال الذي نُشر صفحات منه في مجلة روضة المدارس المصرية عام 1871، كان مكتوباً باللغة العامية. وأن مسرحية (نزهة الأدب في شجاعة العرب) المطبوعة عام 1872 لمحمد عبد الفتاح، كانت مؤلفة بمزيج من العامية والفصحى ([46]). وأن القطعة الحوارية التي مثلها طلاب المدرسة الحربية الخديوية عام 1873، كانت باللغة الفرنسية، وأن مسرحيتي العرب والوطن لعبد الله النديم عام 1881 كانتا مزيجاً بين العربية الفصحى والعامية، وغير منشورتين كما مرّ بنا. وأن مسرحيات فرقة سليم النقاش عام 1875، وفرقة يوسف الخياط عام 1878، وفرقة سليمان الحداد عام 1881، وفرقة سليمان القرداحي عام 1882، وفرقة القباني عام 1884 .. كلها مسرحيات مترجمة أو معربة أو مقتبسة عن أعمال أجنبية، والجزء اليسير منها، هو مؤلف من قبل الشوام وليس من قبل المصريين ([47]). ومن هذا المنطلق، تجرأت الدراسة في زعمها، بأن تادرس وهبي هو أول مؤلف مسرحي مصري، قام بتأليف وطبع مسرحية مؤلفة باللغة العربية الفصحى عام 1885 في مصر.
ب – أهداف المسرحة ووسائل تحقيقها في مسرحية يوسف الصديق
من الثابت أن تادرس وهبي - عندما ألف هذه المسرحية – كان مدرساً للإنشاء والعلوم العربية، ولكونه معلماً في هذا المجال فإنه فكر في أقرب وأنسب طريق من وجهة نظره، لتقديم المادة المقررة للطلاب، فوجد أن المسرحة وسيلة فعالة في هذا المجال في إطارها العام. فإذا أضيف إلى ذلك هدف مباشر، هو كونه ينشد تعليم فن الإنشاء والتمرين عليه، للوصول إلى طلاب يمارسون الإنتاج الإنشائي آداءً. إذا أضيف ذلك فقد وجد تادرس أن أنسب تمرين يكون بتعليم اللغة المسجوعة الفصحى؛ طبقاً لمعايير الفصاحة في عصره. لذلك جعل صوب عينيه مصدرين رئيسين يستقي منهما ما أمكنه فنون البديع بأشكالها المختلفة، وهذان المصدران هما القرآن الكريم بوصفه الأنموذج المثالي للفصاحة، ثم الشعر العربي الفصيح خاصة عند الشعراء الذين أكثروا من استخدام فنون البديع في إبداعهم.
1 – ب – القرآن
أظهرت الدراسة فيما سبق، علاقة تادرس وهبي بالقرآن الكريم، الذي استخدم آياته – صراحة وتضميناً ومعنى - في معظم مؤلفاته الأدبية والتاريخية والتعليمية. وظهرت هذه العلاقة بصورة كبيرة في مسرحية يوسف الصديق، عندما استخدم المؤلف آيات القرآن بصورة تعليمية، باعتبارها الأسلوب الأمثل لتدريب الطلاب على تعلم الأساليب العربية في النطق وفن الإنشاء. وقد أوضح المؤلف ذلك، في مقدمة المسرحية، قائلاً: "ولما كانت قصص الأنبياء ريحانة الألباء، والمرآة التي تجلو بصيرة المشتغل بفن الألف والباء. عنّ لي أن أفرغ قصة الصديق عليه السلام؛ في قالب من التمثيل، وأقدم بها على رحاب أمراء الكلام؛ مع كوني حفيظاً على معاني التنزيل" ([48]).
وهذا المنهج طبقه المؤلف بطريقتين، الأولى: ذكر بعض الآيات القرآنية – أو أجزاء منها - بألفاظها صراحة، والأخرى: ذكر بعض الآيات القرآنية – أو أجزاء منها - بمعناها تضميناً. وجدير بالذكر أن التضمين أو الاقتباس كان أكثره من سورة يوسف، لكونها محور المسرحية. ومن أمثلة الطريقة الأولى ما جاء على لسان صاحب شراب الملك، عندما روى للملك ما حدث بينه وبين يوسف عليه السلام في السجن، قائلاً:
"بشراك أيها الملك فقد لباك رسول التوفيق، وقضى لك قاضي العناية العلوية قضاء الشفيق. فأتاح لك من يزيل ما علق بصدرك من الريب، ويميط حجاب اللبس عن الحقائق لا رجماً بالغيب. فقاتل الله النسيان الذي أنساني هذا الأمين، الذي هو بكل مكرمة جدير وقمين. ولقد تبينت أنه ورث الشرف كابراً عن كابر، وأوتي من العلوم الوهبية ما يستنفد مداد المحابر. حيث نبأني وصاحب الطعام بما طابق الواقع، وكان خير ناجع لشفاء الغليل وناقع. حين رأى كل منا ما منى الفؤاد بداء إعلاله، وقيد اللب في سجن الحيرة بسلاسله وأغلاله. فقال ما خطبكما أيها الصاحبان، أما علمتما أنه متى اشتد الكرب هان. فقلت له إني أراني أعصر خمراً، كأن لي في مقام وظيفتي الأولى نهياً وأمراً. وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزاً، تأكل الطير منه وتوسعني ويا للعجب وكزاً ووخزاً. نبئنا بتأويله، وميز لنا أيها الآسي صحيح القول من عليله. إنا نراك من المحسنين أولى الحرص على الأفضال، والمؤمنين الذين يستضيء بهديهم كل غوى ضال. فتأمل في الحديث تأمل الناقد البصير، وقال أنا أنبئكما بتأويله ولا ينبئكما مثل خبير. يا صاحبي السجن أما أحدكما فيسقي ربه خمراً بكأسه، وأما الآخر فيصلب فتأكل الطير من رأسه. وقال للذي ظن أنه ناج من ذنبه، اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه. وها أنا أحنّ إلى ذكراه حنيناً وأي حنين، وإن كنت تناسيته فلبث في السجن بضع سنين" ([49]).
والأجزاء التي تحتها خط، هي أجزاء مأخوذه بألفاظها من قوله تعالى في سورة يوسف، الآية رقم 36: ]"وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ[. ومن قوله تعالى في الآيتين 41، 42: ]يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ. وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ[.
وإذا كانت الأمثلة على استخدام آيات سورة يوسف كثيرة في المسرحية ([50])، فهذا راجع إلى اعتماد المؤلف على قصة يوسف كما جاءت في القرآن الكريم. ورغم ذلك، فإن المؤلف استخدم آيات أخرى من سور مختلفة غير سورة يوسف في مسرحيته، وذلك تعضيداً لمنهجه التعليمي المعتمد على فصاحة وبلاغة القرآن الكريم. ومن ذلك على سبيل المثال، قول ممثل يعقوب بعد افتقاده لابنه يوسف عليهما السلام: "لا والله لأبكين عليه ما دمت حيا، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسيا. [وكذلك قول صاحب الشراب:] أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك، عسى أن يهدأ بصادق تعبيره روعك وخوفك" ([51]).
وقول يعقوب عليه السلام، مأخوذ من قوله تعالى في سورة مريم آية 31: ]وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً[. ومن آية 23: ]فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً[. وقول صاحب الشراب، مأخوذ من قوله تعالى في سورة النمل آية 40: ]قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ[.
ومن أمثلة الطريقة الثانية الخاصة بتضمين بعض معاني الآيات القرآنية، قول ممثل يوسف عليه السلام: "هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه .. .. الذي هو أوهن من بيت العنكبوت. ثم كدتم لأخيكم من أبيكم كيداً، ولم يأتكم أن الله إنما يمهلكم رويداً" ([52]).
والعبارتان فوق الخط، مأخوذتان بمعناهما من قوله تعالى في سورة العنكبوت آية 41: ]مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ[، ومن قوله تعالى في سورة الطارق آية 17: ]فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً[.
والأمثلة على تضمين معاني الآيات القرآنية كثيرة في المسرحية، ومنها قول أحد إخوة يوسف: "ضربت علينا الذلة والمسكنة" ([53])، وهو قول مأخوذ معناه من قوله تعالى في سورة البقرة آية 61: ]وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ[. وكذلك قول رسول إخوة يوسف لأبيهم: "لا يقود أمثالهم مهما يكن الأمر بحبل من مسد" ([54])، وهو مستند في معناه على قوله تعالى في سورة المسد الآية الخامسة: ]فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ[. وأيضاً قول ممثل يعقوب عليه السلام: "والله حسبي سبحانه وتعالى ونعم الوكيل" ([55])، وهو قول مأخوذ في معناه من قوله تعالى في سورة آل عمران آية 173: ]الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ[. وأخيراً قول ممثل يوسف عليه السلام: "ولتكونن قد أفتريتم على الله الكذب"([56])، وهو قول مأخوذ معنى قوله تعالى في سورة النحل آية 116: ]وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ[.
2 – ب – الشعر
إذا كان تادرس وهبي قد استخدم الأسلوب القرآني مصدراً رئيساً في مسرحية (يوسف الصديق)، من أجل تعليم طلابه فن الإنشاء الصحيح، فإنه استخدم الشعر أيضاً من أجل هذه الغاية، من خلال طريقتين. الأولى، تأليف قصائد تناسب مقام الأحداث الدرامية في المسرحية. والأخرى، تضمين أبيات مشهورة من أقوال شعراء العرب الأقدمين. وفي الطريقة الأولى قام تادرس وهبي بتأليف ثماني قصائد – بلغت أبياتها تسعين بيتاً - وزعها على صفحات مسرحيته بما يناسب مقام الحدث الدرامي. ومثال على ذلك، الأبيات التي قالها ممثل يوسف عليه السلام بعد بيعه، وحزنه على فراق والده يعقوب عليه السلام، ومنها:
مني على يعقوبَ ألف ســــــــــــــلامٍ تسري به لحماهِ ريحُ ســـــــــــــــــــلامِ
يا إخوةً ظلَّ القضاء محتمـــــــــــــــــاً يقتادهم من حكمه بزمــــــــــــــــــــام
ناشدتكم بالله أنْ لاَّ تقطعـــــــــــــوا بمدى الفراق قرابةَ الأرحـــــــــــــــامِ
أنتم أولو الأحلامِ كيف يسؤُكـــــــم حلم هُديتُ له من الأحــــــــــــــــلام
والقصائد المؤلفة من قبل تادرس وهبي، التي جاءت متوافقة ومتناسبة مع المواقف الدرامية في المسرحية كثيرة. فمنها قصيدة قالها ممثل يعقوب بعد موت ابنه يوسف عليهما السلام. وقصيدة قالتها امرأة العزيز أثناء حوارها مع ممثل يوسف عليه السلام. وقصيدة قالها ممثل يوسف عليه السلام في مواجهته لفوطيفار. وقصيدة قالها ممثل يوسف عليه السلام بعد أن أصبح وزيراً، شكر فيها فرعون مصر. وقصيدة قالها إخوة يوسف تأسفوا فيها عما قاموا به ضد يوسف عليه السلام. وأخيراً قصيدة قالها ممثل يعقوب عليه السلام بعد دخوله مصر ([58]).
أما الطريقة الأخرى، التي استخدمها المؤلف في تعليم فن الإنشاء بالشعر، فقد تمثلت في تضمين أبيات مشهورة من أقوال شعراء العرب القدامى - بلغت ستة وثلاثين بيتاً – دون أن يُصرح بأسماء أصحابها، أو يُشير بطريقة أو بأخرى إلى أنها أبيات لشعراء آخرين. وربما فعل تادرس وهبي ذلك، اعتماداً على شهرتها وتداولها. لذلك قامت الدراسة بتوثيق هذه الأبيات ونسبتها إلى أصحابها. وهذه الطريقة في تضمين الشعر اتخذت عند تادرس وهبي شكلين: الأول، تضمين مقطوعات شعرية. والآخر، تضمين بيت شعري مشهور.
ومثال على الشكل الأول، أبيات يعقوب التي قالها بعد سماعه بخبر موت ابنه يوسف عليهما السلام، وفيها يقول: ([59]):
حكمُ المنيَّة في البريَّة جــــــــــــــــارِ ما هذه الدنيا بدارِ قَــــــــــــرار
بيْنا يُرى الإنسانُ فيها مخبــــــــــراً حتى يُرى خبراً من الأخبـــــار
طُبعتْ على كَدَرٍ وأنت تريدُها صَفواً من الأقذاء والأقـــــــذار
ومكلّف الأيامِ ضدَّ طباعهــــــــا متطلّبٌ في الماءِ جذْوة نـــــــــار
وهذه الأبيات – في الأصل – هي مقدمة قصيدة طويلة – بلغت تسعين بيتاً – قالها أبو الحسن التهامي في رثاء ابن صغير، مع اختلاف يسير في رواية الشطرة الثانية من البيت الثالث، التي جاءت في الأصل هكذا: "صَفواً من الأقذاء والأكدار" ([60]).
شكى ألمَ الفراقِ الناس قبلـــي وروّع بالنوى حيّ وميِّـــــــت
وأما مثلُ ما ضمّت ضلوعـي فإني ما سمعت ولا رأيـــــت
ومن الجدير بالذكر، أن تادرس وهبي - تبعاً لمقدرته الشعرية – ورغبة في تعليم طلابه حُسن فن الإنشاء باستخدام الشعر، كان يقوم بتغيير بعض المقطوعات الشعرية المشهورة، لتتناسب مع الحدث الدرامي والحوار المسرحي. فعلى سبيل المثال قال الشاعر ياقوت بن عبد الله الرومي ([63]):
لك منزلٌ في القلبِ ليس يَحلُّـــــــــــــهُ إلا هواك وعن سواك أجلُـــــــــــهُ
يا من إذا جَليتْ محاسنُ وجهِــــــــه عَلِمَ العذولُ بأن ظلماً عذلُــــــــــهُ
الوجه بدر دجى عذارك ليلــــــــــــه والقد غصن نقا وشعرك ظلـــــــه
هذه جفونك أعربت عن سحرهـا وعذار خدك كاد ينطق نملـــــــــه
عار لمثلي أن يرى متسليــــــــــــــــــــا وجمال وجهك ليس يوجد مثلــــه
هل في الورى حسنٌ أَهيمُ بحبِـــــــهِ هيهاتَ أَضحى الحسنُ عندك كلُّهُ
فقام تادرس وهبي بتضمين مسرحيته هذه الأبيات، التي قالتها امرأة العزيز، مع تغيير في بعض عباراتها وكلماتها وأبياتها، لتتناسب مع مقام الحدث والحوار في المسرحية، فجاءت هكذا ([64]):
لك منزلٌ في القلبِ ليس يَحلُّـــــــــــــــهُ إلا هواك وعن سواك أجلُـــــــــــهُ
يا من إذا جَليتْ محاسنُ وجهِـــــــــه عَلِمَ العذولُ بأن ظلماً عذلُـــــــــــهُ
الوجهُ بدر هدى جبينك أفقُــــــــــــهُ والشعرُ ليل دُجى يَزينك ظلُـــــــــهُ
هذي جفونُك أعربتْ عن سحرها والسحرُ منك نُجلّهُ ونُحلُّـــــــــــــــهُ
مثلي كثير في الهوى متهتــــــــــــــــــكٌ لكنْ جمالُك ليس يُوجد مثلُــــــــــــهُ
هل في الورى حسنٌ أَهيمُ بحبِــــــــهِ هيهاتَ أَضحى الحسنُ عندك كلُّهُ
ومن أمثلة الشكل الثاني، الخاص بتضمين بيت شعري مشهور، ما جاء على لسان أحد إخوة يوسف قائلاً لأبيه: "مهلاً أيها الوالد مهلاً، وأهلاً بعتابك وسهلاً. كيف تعهد فينا، الإقدام على إضاعة أخينا. أتظن أنّا أخذنا ببعض القسوة من الأغماد، ولم يبق من فرق بين قلوبنا وبين الجماد. أو لم يطل عليه حين ذهبنا نستبق أمد الانتظار، وأكله الذئب فروى من دمه ظمأ تلك القفار. فتعز يا أبتاه على فقده، وليكن بنيامين أحب إخوته إليك من بعده.
والبيت السابق من الشواهد النحوية المشهورة ([66]) جاء به تادرس وهبي مناسباً لمقام الحوار وحالة القائل النفسية. كذلك قول ممثل يوسف عليه السلام، عندما حاول تبرير موقفه من امرأة العزيز أمام فوطيفار وزير فرعون مصر، عندما قال: "ماذا أقول لأثبت برأة ساحتي إثباتاً كلياً، وأميط قناع الإقناع عن وجه الحقيقة ظاهراً جلياً. ولا سبيل للحصول على تلك الغاية، أو الوصول في مقام المحاجة إلى حد الكفاية. هذا مع كوني لا أقدم على تفنيد كلامها، أو المسيس معاذ الله بشرف مقامها.
وهذا البيت ختام قصيدة مشهورة للبهاء زهير ([68])، جاء به تادرس وهبي كقول فصل يبين حيرة يوسف عليه السلام، وتسليم أمر اتهامه إلى وزير فرعون مصر. وبالأسلوب نفسه، قام المؤلف بوضع مجموعة من الأبيات المشهورة، طعم بها بعض المواقف والأقوال التي جاءت في المسرحية. ومن هذه الأبيات:
وإذا كانت الدراسة أظهرت مقدرة تادرس وهبي الشعرية – في الشكل الأول – عندما قام بتغيير بعض المقطوعات الشعرية لتتناسب مع الحدث والحوار، فإن هذه المقدرة تظهر أيضاً في الشكل الثاني، حيث قام المؤلف بتأليف قصيدة من إنشائه، اختتمها ببيت شعري مشهور لقيس بن الملوح ([73]). وذلك في القصيدة التي قالها ممثل يعقوب في ختام رثائه لابنه يوسف عليهما السلام، والتي جاءت في عشرة أبيات، نجتزيء منها هذه الأبيات الأخيرة ([74]):
ولكن قضى الرحمن ما قـــــد أراده وما لي لا أرضى بما كان قاضيــا
رجوت إلهي أن أرى وجه يوسف وما خاب من أمّ المهيمن راجيـــــا
وقد يجمع الله الشتيتين بعدمــــــــــا يظنان كل الظن أن لا تلاقيـــــــــــــا
3 – ب – وسائل تحقيق الأهداف
ذكر قبلاً أن تادرس وهبي، إنما كان يهدف من خلف مسرحة المنهج إلى تقديم المعلومات في ثوب يقربها للفهم بطريق مباشر؛ وكذلك إلى تعليم أسلوب الإنشاء، وخلق الطالب القادر على التطبيق. فإذا كانت الدراسة قد تناولت الثوب العام عند الحديث عن البناء الفني للمسرحية، فإن عليها الآن أن تتناول كيفية تحقيق الهدف الثاني بعد أن عُرض لمصادره من القرآن والشعر.
ويُمثل علم البلاغة بفروعه الثلاثة البيان والبديع والمعاني، مطية الأديب لتحقيق أسلوب إنشائي دقيق. غير أن التركيز على الصنعة اللفظية، المعتمدة على معطيات علم البديع خاصة، تمثل مظهراً مهماً من مظاهر أساليب الكتابة، التي اهتم بها معظم الكُتاب العرب بصفة عامة، لما يحققه من موسيقى خارجية، تعطي إيقاعاً يحمل على الراحة والإقبال على المضمون، دونما إغفال لوسائل المعنى. وفي القرن التاسع عشر بصفة خاصة، ركز المبدعون على صنعة الإنشاء اللفظي أكثر من الوسائل الأخرى. ويبرز من هذه الوسائل السجع، الذي كان منتشراً في هذا الوقت، والذي اتخذه تاردس وهبي سمة من سماته الإنشائية. وباعتباره مدرساً لفن الإنشاء والعلوم العربية، أراد المؤلف تعليم طلابه السجع من خلال مسرحيته (يوسف الصديق).
ولتحقيق هذا الهدف، وضع المؤلف عدة خطوات منهجية وصولاً لهدفه التعليمي، منها: إطلاق مصطلح المقامة على فصول مسرحيته لكونها تلتقي مع غرضه في هذا المجال، وقيامة بتأليف مسرحيته على أسلوب حُسن التقسيم في السجع، وكذلك استخدامه لبعض المحسنات البديعية أو الصنعة اللفظية مثل الجناس والطباق والمقابلة .. إلخ هذه الوسائل المستخدمة في أسلوب الإنشاء، ناهيك عن تأليفه لمعجم لغوي تعليمي، أرفقه في نهاية المسرحية. والدراسة ستتوسع في شرح هذه الخطوات المنهجية كالتالي:
I - مصطلح المقامة
أبانت الدراسة فيما سبق، أن تادرس وهبي - في تقسيمه للمسرحية - وضع مصطلح المقامة بدلاً من مصطلح الفصل التمثيلي. وهذا التبديل في المصطلحات – من وجهة نظر الدراسة - لم يكن مصادفة، بل كان مقصوداً خدمة لأهداف المسرحية التربوية والتعليمية. فقد أشار تادرس وهبي – في مقدمة وخاتمة مسرحيته - إلى أنه اتخذ أسلوب المقامة، لما فيه من وعظ وإرشاد، ولأن أسلوب المقامة في حالة تمثيلها، يكون ذا أثر كبير على أسماع الطلاب ([75])، لأن من أبرز أهدافها تعليم فن الإنشاء واللغة للنشيء باستخدامها الأسلوب المسجوع المعتمد على الموسيقى السمعية أكثر من اعتمادها على موسيقى المعنى الداخلي في التذوق.
وإذا وضعت الدراسة - إلى جانب ذلك – مفهوم المقامة في اللغة، من حيث إنها تعني المجلس الذي يجتمع فيه الناس، وتُلقى فيه الخطب والعظات. وأن هذا المفهوم تطور مع الزمن لتصبح المقامة صورة من صور سرد القصص على ألسنة الرواة والمنشدين، أو لتصبح عملاً أدبياً يتخذ القالب القصصي أو الحكائي طابعاً عاماً، أو لتصبح لفظة المقامة تُطلق للدلالة على الموعظة الأخلاقية وترتبط ارتباطاً وثيقاً بالغاية التعليمية ([76]). لو وضعت الدراسة ذلك إلى جانب، اتخاذ تادرس وهبي مصطلح المقامة بدلاً من مصطلح الفصل التمثيلي، يتضح أن المؤلف قصد اختيار هذا المصطلح، خدمة لأهدافه التربوية والتعليمة، ولا سيما هدفه التعليمي في فن الإنشاء، من خلال استخدام المقامة في تعليم الأساليب الإنشائية، بناءً على مقولة إن "المقامات لا يُستفاد منها سوى التمرن على الإنشاء والوقوف على مذاهب النظم والنثر" ([77]).
II - السجع
السجع – في أحد تعاريفه - هو الكلام المُقَفَّى، أي كلام له فَواصِلُ كفواصِلِ الشِّعْر من غير وزن ([78]). وأسلوب السجع استخدمه تادرس وهبي في جميع كتاباته ومؤلفاته، وكذلك في مسرحيته (يوسف الصديق)، وخير مثال على ذلك، قول فوطيفار ليوسف عليه السلام: "أظننت أن زوجتي كانت بغيا، أم تناسيت كوني بك حفيا، فلأودعنك السجن مليا، ولأذيقنك لباس الجوع والخوف ما دمت حيا" ([79]). واستخدام هذا الأسلوب في الكتابة – على الرغم من انتشاره في وقت تأليف المسرحية – كان من أجل تحقيق هدف تعليمي للطلاب من قبل أستاذهم – مؤلف المسرحية - وهو استخدامهم السجع في أساليبهم الإنشائية.
ومن الجدير بالذكر أنه اعتمد في سجعه على كلمات قرآنية يقتبسها من آياتها، ويضعها في فواصل جملة ليحقق الغرض الموسيقي من السجع، فجملة "زوجتي كانت بغيا" مأخوذة من قول أهل مريم لها عندما جاءت تحمل عيسى عليه السلام ]يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً [آية 28 من سورة مريم. ومن قول مريم للرسول أيضاً عندما جاء يبشرها بأمر الله في حمل عيسى ]قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً[ آية 20 من سورة مريم. واقتبس كلمة (حفيا) من قول سيدنا إبراهيم لأبيه آزر في حوارهما وهو يدعوه إلى التوحيد ]قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً[ آية 47 من سورة مريم. كما اقتبس كلمة (حيا) من حوار سيدنا عيسى وهو في المهد ليبين آية الله في النبوة، قائلاً ]وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً[ آية 31 من سورة مريم. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن تادرس وهبي قد أجاد في حبك صنعة الاقتباس إذ أخذ الكلمات بموسيقاها القرآنية وبشكلها الإعرابي في حالة النصب، فحقق النغم من التنوين والسجع من انتهاء فاصلة الياء الموحدة.
ولقد لاحظت الدراسة أن المؤلف لم يكتفِ باستخدام السجع في صورته المعروفة، بل كان يستخدم مهارته الإنشائية في تنويع استخدامه للسجع، بحيث كان يكثر من إيراد حُسن التقسيم فيه. فعلى سبيل المثال، نجد ممثل يوسف عليه السلام يقول: "كيف أقدم على انتهاك حرمة الأدب وهو من محض أعمال السفهاء، ولا أحجم عن قضاء هذا الأرب وأنا مكتوب عند الله في ديوان الأنبياء" ([80]). فعلى الرغم من وجود تقفية السجع في نهاية الجملتين، المتمثلتين في كلمتي (السفهاء والأنبياء)، إلا أن هناك تقفية أخرى داخلية في كل جملة من الجملتين، تتمثلان في كلمتي (الأدب والأرب)، بما فيهما من جناس ناقص، كأحد أنواع البديع أيضاً.
ومثال آخر على ذلك، قول ممثل يوسف عليه السلام لإخوته: "أظننتم أن أمركم يلبث وراء حجاب المواربة مستوراً، ومحصل غرضكم لا يبرح في سجل الكتمان مسطوراً" ([81]). وحُسن التقسيم واضح في تقفية السجع بين كلمتي (مستوراً، ومسطوراً)، وبين كلمتي (أمركم، وغرضكم)، وهو هنا كذلك يتكيء على المصدر القرآني في الصياغة ليحقق الموسيقى. حيث أخذ كلمة (مستورة) بشكلها الإعرابي في الفاصلة القرآنية من الآية 45 من سورة الإسراء في قوله تعالى ]وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً[. كما أخذ كلمة (مسطوراً) من السورة ذاتها من الآية 58 في قوله تعالى ]وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً[.
III - الجناس
ومن منطلق الهدف التعليمي عند تادرس وهبي، لاحظت الدراسة أنه استخدم المحسنات البديعية في أشكالها المتنوعة، ومن ذلك الجناس بنوعيه التام والناقص. والجناس التام – كما هو معروف – هو التشابه المطلق بين لفظتين، في عدد ونوع وترتيب وهيئة حروفهما مع اختلاف معناهما. ومن أمثلة الجناس التام، قول ممثل يوسف عليه السلام لإخوته: "أيها الإخوة أي شر جنيت، وأي ثمر من مغارس الإساءة جنيت. حتى تبيعوني بيع الرقيق، ويفوتكم إنما مثلي هو الحر الرقيق" ([82]).
والجناس التام واضح في ذكر لفظة جنيت مرتين، الأولى بمعنى ارتكبت، والأخرى بمعنى حصلت. وكذلك لفظة الرقيق كررها مرتين، الأولى بمعنى العبيد، والأخرى بمعنى اللطيف. والجناس التام واضح أيضاً في تكرار لفظة (جارحة)، في قول أحد إخوة يوسف: "كأن من حبه روحاً في كل جارحة، أو بين قسي البين وأوتارها سهاماً جارحة" ([83])، وأيضاً في تكرار لفظة (تعبرون)، في قول فرعون مصر: "فيا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون، واجتازوا معي هذا البحر اللجي إن شئتم أيها الملأ تعبرون" ([84]).
كذلك أورد المؤلف عبارات كثيرة في مسرحيته، تمثل الجناس الناقص – وهو اختلاف اللفظتين في عدد أو ترتيب أو هيئة أو نوع حروفهما – مثل قول ممثل يعقوب عليه السلام: "كدت أمزج دمع المقلتين بدم المحاجر، وأؤثر آيات الأحزان ولو بالخناجر على الحناجر" ([85]). والجناس الناقص واضح في اختلاف الحروف بين كلمات (المحاجر، الخناجر، الحناجر). ومثال آخر، قول ممثل يوسف عليه السلام لوكيله: "عليك باقتفاء أثر أولئك الرجال، والبحث عن السقاية لعلك تستخرجها من بعض الرحال"([86]).
IV - التورية والطباق والترادف
ومن المعروف أن التورية والطباق والترادف من أنواع فن البديع الواضحة. وهي من ركائز موسيقى اللفظ الخارجية، وهذه الوسائل استخدمها تادرس وهبي كثيراً في مسرحيته، خدمة لهدفه التعليمي. ففي التورية ذكر المؤلف كلاماً معناه القريب ليس مقصوداً، ومن أمثلة ذلك، قول أحد إخوة يوسف عليه السلام لبعض التجار: "هل لكم في شراء هذا الغلام البارع الصفات، الجامع في أفعاله لمحسنات البديع وبديع المحسنات"([87])، حيث المعنى الاصطلاحي مشهور لكلمتي بديع ومحسنات، غير أن الكاتب يقصد المعنى البعيد المتمثل في اللغة بقصد الوصف. كما أنه استخدم الترادف المعنوي الواقع بين الجمل، للتوكيد ولاستعراض الثروة اللفظية المعينة على الإنشاء وفن الأداء. كقول فرعون مصر ليوسف عليه السلام: "فاهنأ بما أوتيت من علو المكانة وسمو المكان، وعليك بتدارك هذا الأمر حسب المقدرة والإمكان" ([88])، إذ رادف بين معنى الجملتين "علو المكانة وسمو المكان"، لتوكيد معنى الرفعة، كما رادف بين اللفظين "المقدرة والإمكان"، للغرض ذاته.
أما الطباق، فقد جاء به تادرس وهبي أيضاً، عندما جمع بين الشيء وضده في عبارة واحدة. ومن أمثلة هذه العبارات في المسرحية: "إني ليحزنني أن أفارقه فراقاً يعز بعده اللقاء .. .. أن تريني نجوم ليل المحبة في أفق الصدود نهاراً .. .. وشروق شمس صفائه التي كادت تجنح إلى الغروب .. .. الآن حصحص الحق وزهق الباطل .. .. ولم تميزوا في قولكم بين خطأ وصواب .. إلخ" ([89]).
V - المعجم اللغوي التعليمي
أوضحت الدراسة فيما سبق، أن تادرس وهبي - باعتباره مدرساً للإنشاء والعلوم العربية - ألف مسرحيته (يوسف الصديق) بهدف تعليم طلابه الشعر ووسائل التعبير الإنشائي، من خلال المحسنات البديعية، ومنها السجع والجناس والمقابلة والطباق .. إلخ، لتدريبهم على فن الإنشاء الصحيح. والمُلاحظ أن المؤلف لم يكتفِ بذلك، بل قام بتأليف معجم لغوي تعليمي لطلابه، أرفقه بنهاية مسرحيته، ليكون عوناً لهم على معرفة معاني كلمات المسرحية، وأيضاً ليسهل عليهم انتقاء المفردات التي تلائم قوافي الأبيات في الشعر، أو فواصل السجع في النثر. وهذا المعجم – على حد اطلاعي – يعتبر أول معجم يتم إرفاقه في نهاية مسرحية مطبوعة مصرية.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا المعجم، ألفه تادرس وهبي على نظام مدرسة التقفية، وعلى غرار القاموس المحيط للفيروزآبادي. الذي يسير في منهجه طبقاً لمدارس المعاجم الهجائية، من حيث ترتيب الكلمات المجردة، وفق الحرف الأخير الذي أسماه باباً، ثم يأتي بعد ذلك الحرف الأول فالثاني. وإذا كان الفيروزآبادي قسم معجمه إلى سبعة وعشرين باباً، بعدد الحروف الهجائية، وأدمج بابي الواو والياء في باب واحد، وجعل الباب الثامن والعشرين للألف اللينة ([90]). فقد قام تادرس وهبي بتقليد هذا التقسيم، تقليداً متطابقاً ([91]).
وكمثال لاستخدام هذا المعجم وأهميته في تعليم الطلاب التقفية، في الشعر وانتقاء الكلمات منه. نجتزيء مجموعة من الأبيات من قصيدة طويلة ألفها تادرس وهبي، وجاءت على لسان إخوة يوسف عليه السلام، عند مفارقتهم إياه، وتأسفهم على ما وقع منهم في حقه، قالوا فيها ([92]):
إنَّ الجزاءَ على الجريمةِ عاجلاً أو آجلاً لابدَ منه لمجــــــــــــــــرمِ
يا ويحَ يوسفَ كان يضرعُ قائلاً أَجنيت فيكم مرةً لمحـــــــــــــرمِ
وكمْ استغاثَ ولا مغيثَ لعلَّنــا نروي غليلَ فؤادِه المتـضــــــــرمِ
والكلمات المشتملة على قافية هذه الأبيات، جاءت في المعجم في باب الميم هكذا: (جرم) الجرم بالضم والجريمة الذنب ولا جرم أي لابد ولا محالة. (حرم) الحرمة ما لا يحل انتهاكه والمحرمة الحرمان والحرام ضد الحلال. (ضرم) الضرام بالكسر اشتعال النار ([93]).
ومثال آخر على تقفية الشعر الأبيات التالية، وهي من قصيدة طويلة - من تأليف تادرس وهبي - جاءت في المسرحية على لسان إخوة يوسف في حوارهم مع يوسف عليه السلام، قالوا فيها ([94]):
أَلا بشراكَ دامَ لك البقـــــــــاءُ وعزَّ بِيُمنِ طالعِكَ الإخــــــــاءُ
تقلدتَ الوزارةَ فاستقامــــــت أمورُ الملكِ وإنجابَ الشـــــقاءُ
وصِـرتَ لكلِ ذي أملٍ ملاذاً فماتَ اليأسُ واستحيا الرجاءُ
والكلمات المشتملة على قافية هذه الأبيات، جاءت في المعجم في باب الواو والياء هكذا: (أخا) الإخاء والمؤاخاة مصدرا آخا أي اتخذ أخاً. (شقا) الشقاء والشقاوة نقيض السعادة. (رجا) الرجاء بالمدّ الأمل والخوف والرجا بالقصر الناحية والجمع أرجاء([95]).
وإذا كان المثالان السابقان اختصا بتقفية الأبيات في الشعر، فلتأتِ الدراسة بمثالين أيضاً يتعلقان بفواصل الجمل في السجع، حتى تظهر الفائدة التعليمية لهذه المعجم. والمثال الأول، هو قول فوطيقار ليوسف عليه السلام: "أظننت أن زوجتي كانت بغيا، أم تناسيت كوني بك حفيا" ([96]). والكلمتان جاءتا في المعجم في باب الواو والياء، هكذا: (بغى) البغي والابتغاء مصدرا بغي وابتغى أي طلب والبغي أيضاً التعدي. (حفا) الحفي المستقصي للأمور الحريص على العناية بالرجل ([97]).
والمثال الآخر، قول صاحب الشراب لفرعون مصر، أثناء روايته لقصته مع يوسف عليه السلام في السجن: "نبئنا بتأويله، وميز لنا أيها الآسي صحيح القول من عليله" ([98]). والكلمتان جاءتا في المعجم في باب اللام، هكذا: (أول) المآل المرجع والمصير. (علل) التعليل مصدر علل بمعنى سقى مرة بعد أخرى وفلان يعلل نفسه بتعلة كذا أي يتلهى به ويجتزي ([99]).
ثالثاً : النتائج والتوصيات
تناول البحث قضية (توظيف الشخصية الدينية في المسرح: يوسف الصديق نموذجاً)، لتعقب عدة أهداف وضعتها الدراسة نصب عينيها للتحقق منها. وقد برر البحث لأسباب اختيار الموضوع والأنموذج وحدد العينة الدراسية ومعايير الدراسة والمنهج، ثم قام بتحليل مادة الدراسة طبقاً للمنهج المرسوم، وفي إطار الأهداف. ومن خلال ذلك توصلت الدراسة إلى النتائج الآتية:
1 - من حيث (البناء الفني لمسرحية يوسف الصديق)، لوحظ:
أ - أن تادرس وهبي حقق كثيراً من أساسيات البناء الفني في مسرحيته، مثل: الاستهلالة التمثيلية، والحدث الدرامي، والتطور، وعقدة المسرحية، والصراع الدرامي، والإرشادات المسرحية، والإيقاع، والحبكة، ورسم الشخصية المسرحية بأبعادها الثلاثة الجسماني والاجتماعي والنفسي .. إلخ.
ب – أن نص مسرحية (يوسف الصديق) تميز بسمات فنية واضحة لدى مؤلفه تادرس وهبي، ومنها: وضعه عناوين لمقامات وفصول مسرحيته، مخالفاً بذلك ما هو مألوف في طباعة المسرحيات في القرن التاسع عشر. والتزامه بالرقابة الذاتية – قبل سن قوانين الرقابة المسرحية - واحترامه وتقديسه للشخصيات الدينية، عندما ذكرها بقوله – على سبيل المثال – "قال ممثل يوسف عليه السلام" ولم يقل "قال يوسف عليه السلام". كذلك استخدامه لعنصر الراوي في سرده لأحداث يصعب إخراجها على خشبة المسرح.
ج - أن مسرحية (يوسف الصديق) هي أول مسرحية مصرية مطبوعة ومنشورة ومؤلفة بالفصحى من قبل كاتب مصري. وبناءً على ذلك، يُعتبر تادرس وهبي أول مؤلف مسرحي مصري، قام بتأليف وطبع مسرحية مؤلفة باللغة العربية الفصحى عام 1885 في مصر.
2 - من حيث (أهداف المسرحة ووسائل تحقيقها في نص يوسف الصديق)، وجد:
أ - أن تادرس وهبي استخدم المسرحة، باعتبارها وسيلة فعالة في تقديم مادة فن الإنشاء المقررة للطلاب والتمرين عليها، لخلق الملكة القادرة على الأداء والمحاكاة، عن طريق تعليم اللغة المسجوعة الفصحى من خلال مصدرين: الأول، القرآن الكريم بوصفه الأنموذج المثالي للفصاحة، وذلك بذكر آياته - أو أجزاء منها - بألفاظها صراحة، وبمعناها تضميناً. والمصدر الآخر الشعر، عن طريق تأليف قصائد تناسب مقام الأحداث الدرامية في المسرحية، بالإضافة إلى تضمين أبيات مشهورة من أقوال شعراء العرب الأقدمين أمثال: لبيد، البهاء زهير، قيس بن الملوح، بشار بن برد، التهامي، أسامة بن منقذ، ياقوت الرومي.
ب – أن تادرس وهبي اتخذ السجع في مسرحيته (يوسف الصديق)، سمة من سماته الإنشائية، بهدف تعليمه للطلاب. ولتحقيق هذا الهدف، وضع المؤلف عدة خطوات منهجية، منها: إطلاق مصطلح المقامة على فصول مسرحيته، لأن أسلوب المقامة في حالة تمثيلها، يكون ذا أثر كبير على أسماع الطلاب، ولأن من أبرز أهدافها تعليم فن الإنشاء. كذلك كتب تادرس وهبي مسرحيته على أسلوب حُسن التقسيم في السجع، مع استخدامه لبعض المحسنات البديعية أو الصنعة اللفظية مثل الجناس والطباق والتورية والترادف.
ج – أن المعجم اللغوي التعليمي، الذي ألفه تادرس وهبي وأرفقه في نهاية مسرحية (يوسف الصديق)، يُعتبر أول معجم لغوي يُنشر في نهاية مسرحية مطبوعة في مصر عام 1885. وقد ألفه تادرس وهبي ليكون عوناً لطلابه على معرفة معاني كلمات المسرحية، وليسهل عليهم تعلم فن الإنشاء، بتوفير الكلمات المناسبة للقوافي في الأبيات. ومن ثم دفعه ذلك إلى منهجة المعجم على طريقة معاجم التقفية، التي أُعدت في التراث العربي للغرض ذاته. جاعلاً من الحرف الأخير من الكلمة المجردة مفتاح باب الكلمة، ليسهل جمع الكلمات المتحدة في الحرف الأخير، ومن ثم تُعين الناظم في التقفية عن طريق انتقاء المفردات، التي تلائم قوافي الأبيات في الشعر. كما تعين الناثر بالوقوع على الكلمات المتحدة الحرف الأخير، لتمثل فواصل السجع في نهايات الجمل.
رابعاً : الهوامش
([4]) – ذكر كثيرون - [أمثال: خير الدين الزركلي – الأعلام – السابق – ص(82)، وزكي محمد مجاهد - الأعلام الشرقية – السابق – ص(871)، ومحمد سيد كيلاني - الأدب القبطي قديماً وحديثاً – دار الفرجاني – القاهرة، طرابلس، لندن – د.ت – ص(205)] - إن تادرس وهبي وُلد عام 1860. ولكن الدراسة ترى أن مولده كان في عام 1856، أو قبل ذلك. حيث إنه أُحيل إلى المعاش عام 1916، أي وهو في سن الستين، وعلى ذلك يكون ميلاده عام 1856. وهناك دليل منطقي آخر، هو قيام تادرس وهبي بتأليف أول كتاب له وهو مدرس بمدرسة الأقباط بحارة السقائين عام 1875، هو كتاب (الخلاصة الذهبية في اللغة العربية). فإذا كان مولده عام 1860 فهذا يعني أنه كان أستاذاً ومؤلفاً وهو في عمر الخامسة عشر!! أما إذا كان مولده عام 1856، فيكون عمره حينذاك التاسعة عشر، وهو عمر مقبول نوعاً ما، ليكون فيه الشخص أستاذاً ومؤلفاً.
([6]) - قال طارق البشري في كتابه : (المسلمون والأقباط في إطار الجماعة الوطنية – دار الوحدة للطباعة والنشر – بيروت – ط1 – 1982 – ص43) ذكرت صحيفة الوطن القبطية في 5/5/1916: "كان للأقباط قديماً رواق بالأزهر يتلقون فيه العلوم المنطقية والشرعية، وأن ممن درسوا بالأزهر قديماً أولاد العسال وهم من كبار مثقفي القبط ولهم مؤلفات مهمة. ومنهم حديثاً ميخائيل عبد السيد صاحب صحيفة الوطن، إذ درس في الأزهر، ثم انتقل إلى دار العلوم لما أنشئت. ووهبي تادرس الشاعر الذي كان يحفظ القرآن ويكثر من الاقتباس منه". والدراسة لا تقرّ بوجود رواق الأقباط هذا، حيث لم تجد في أغلب المراجع – التي بين يديها حتى الآن – رواقاً بهذا الاسم. والمرجح أن هؤلاء الأقباط درسوا بالفعل في الأزهر، ولكن عن طريق ما يُعرف في هذا الوقت بنظام الانتساب. وحول هذا الأمر ينظر: م.خ.ط – كيف كان الأزهر وكيف هو الآن وإلى أين يسير؟ - مجلة مصر الحديثة المصورة – يوليو 1928، جراية الأزهر – مجلة مصر الحديثة المصورة – 21/1/1929، د.سعيد إسماعيل علي – الأزهر على مسرح السياسة المصرية – دار الثقافة للطباعة والنشر بالقاهرة – 1974، د.عبد العزيز محمد الشناوي – الأزهر جامعاً وجامعة – الجزء الثاني – مكتبة الأنجلو المصرية – 1984.
([8]) - حول مؤلفات تادرس وهبي ينظر: فهارس دار الكتب المصرية، مجلة المقتطف – إبريل 1886 – ص(447)، أغسطس 1886 – ص(703)، يونية 1888 – ص(583)، مارس 1890 – ص(421)، يوسف إليان سركيس – معجم المطبوعات العربية والمعربة – مطبعة سركيس بمصر – 1928، جاك تاجر – حركة الترجمة بمصر خلال القرن التاسع عشر – دار المعارف – 1945 - ص(131)، خير الدين الزركلي – السابق - ص(82)، زكي محمد مجاهد – السابق - ص(872)، محمد سيد كيلاني – السابق - ص(97).
([13]) - الجدير بالذكر أن هذه المسرحية مثلتها جمعية المساعي الخيرية يوم 5/5/1886، وليس يوم 15/5/1886، كما ذكر تادرس وهبي. فقد قالت جريدة (القاهرة) يوم 2/5/1886: "عزمت جمعية المساعي الخيرية القبطية على تشخيص رواية (بطرس الأكبر قيصر الروس)، في قاعة الأوبرا الخديوية، وذلك يوم الأربعاء 5 مايو 1886. وهي رواية عربية غريبة في بابها، جمعت إلى الفوائد التاريخية الفرائد الأدبية .... وأن تشخيص هذه الرواية سيكون تحت إدارة حضرة عزتلو وهبي بك ناظر مدرسة الأقباط بحارة السقايين".
([16]) - فعلى سبيل المثال: قامت جمعية النشأة القبطية بتمثيل مسرحية (بطرس الأكبر) عام 1899، ومثلتها أيضاً جمعية المعارف الأدبية عام 1904. أما مسرحية (تليماك) فقد مثلتها جمعية المساعي الخيرية المارونية عام 1906، ومثلتها أيضاً جمعية التهذيب الخيرية بالقللي عام 1912. وحول هذه العروض يرجع إلى: جريدة المؤيد 9/4/1899، وجريدة مصر 30/5/1904، 5/1/1912، وجريدة المقطم 4/4/1906.
([76]) - يرجع في هذا الأمر إلى: ابن منظور - لسان العرب – دار إحياء التراث العربي، مؤسسة التاريخ العربي – بيروت – 1986 - مادة (قوم)، وكذلك إلى: أبو الفضل بديع الزمان الهمذاني – السابق – المقدمة ص(7،8)، وكذلك إلى: د. إبراهيم السعافين وآخرون – أساليب التعبير الأدبي – دار الشروق – الأردن، عمان – 2002 - ص(166 – 168).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق