مسرح رمضان في القرن التاسع عشر
د. سيد علي إسماعيل
ـــــــــــــ
ارتبط شهر رمضان المبارك بفنون دينية شهيرة في بعض البلدان العربية؛ منها حلقات الذكر، والتواشيح الدينية، وغيرهما من المظاهر الدينية المتنوعة؛ التي تتناسب وقيمة هذا الشهر الفضيل في نفوس المسلمين في أرجاء العالم الإسلامي. ولعل العامل المشترك لهذه الفنون هو السهر طوال الليل – من بعد صلاة التراويح – حتى وقت السحور، وطول الفترة الزمنية لسهر المسلمين في شهر رمضان؛ جعل أرباب الفنون يستغلون الأمر في الترويج لفنونهم المتنوعة من باب التجارة، وضمان وجود المشاهدين وكثرتهم في هذا الشهر الكريم. وفي هذه المقالة، سنتحدث عن الفن المسرحي في هذا الشهر الفضيل في القرن التاسع عشر؛ أي في القرن الذي بدأ فيه ظهور هذا الفن في البلدان العربية.
مسرح الحملة الفرنسية
من المعروف أن العالم العربي عرف المسرح – في صورته الغربية – عن طريق الحملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت (1798 – 1801م). فقد نقلت إلينا جريدة (كورييه دوليجيبت COURIER DE L, EGYPTE) - التي كانت تصدر في مصر أيام الحملة باللغة الفرنسية - أخباراً متنوعة في هذا المجال، ومنها: وجود نادٍ للاجتماعات أنشأه الفرنسي دارجيافل DARGEAVEL، في منطقة الأزبكية بالقاهرة. وفي هذا النادي تكونت جمعية للتمثيل، مثلت مسرحيتين لفولتير وموليير. وهذا النادي تحول إلى مسرح عُرف باسم (مسرح الجمهورية والفنون)، وصفه الجبرتي في تاريخه قائلاً: " وفيه كمل المكان الذي أنشأه بالأزبكية عند المكان المعروف بباب الهواء وهو المسمى في لغتهم بالكُوميدي وهو عبارة عن محل يجتمعون به كل عشرة ليالٍ ليلة واحدة يتفرجون به على ملاعيب يلعبها جماعة منهم بقصد التسلي والملاهي مقدار أربع ساعات من الليل وذلك بلغتهم ولا يدخل أحد إليه إلا بورقة معلومة وهيئة مخصوصة ".
ومع مرور الوقت أصبح هذا المسرح متاحاً للجميع، واستغل القائمون على إدارته قدوم غرة رمضان لعام 1215 هجرية (الموافق عام 1801 ميلادية)، فأعلنوا عن تمثيل مسرحية (المحامي باتلان والطحانين)، وهي أوبرا صغيرة حديثة ألفها في مصر (بالزاك BALZAC) عضو لجنة الفنون، ولحنها (ريجيل RIGEL) عضو المجمع. وتُعد هذه المسرحية أول مسرحية تُعرض على خشبة المسرح في مصر في شهر رمضان. وعلى الرغم من أن الحملة الفرنسية عرّفت المسرح إلى الشعوب العربية عن طريق مصر، إلا أن هذا التعريف تلاشى وانتهى؛ بسبب عدم استمراريته!! فمسرح الحملة الفرنسية لم يستمر سوى أشهر قليلة، حيث هُدم مسرح الجمهورية والفنون في ثورة القاهرة، وأصبح أطلالاً.
في الأزبكية
عاد الفن المسرحي إلى الظهور مرة أخرى عام 1868م في عهد الخديوي إسماعيل، من خلال وجود منشآت فنية عديدة في منطقة الأزبكية بالقاهرة، مثل: مسرح الكوميدي الفرنسي، ودار الأوبرا الخديوية، ومسرح حديقة الأزبكية، وصالة سانتي للفنون، وملعب البهلوان الخيالي الفرنسي أو سيرك الخواجة رانسي. والمنشأة الأخيرة – أي السيرك – تم افتتاحها في غرة رمضان 1286 هجرية (1869م) – كما أخبرتنا بذلك جريدة الوقائع المصرية، ومجلة وادي النيل – حيث قرر مدير السيرك الخواجة رانسي استغلال السهر في شهر رمضان، ووضع برنامجاً فنياً يبدأ من الساعة الثامنة مساءً، وينتهي قبيل السحور في الثانية صباحاً، ويشتمل البرنامج على التمثيل الصامت المعروف بالبانتومايم، وقد وصفته جريدة الوقائع المصرية هكذا: " قفص الجسم البشري الرقاص المضحك، وهو كناية عن ملعب تياترو يجري بالإشارات لا بالتكلم". وبالإضافة إلى هذا الفن نجد – ضمن برنامج السيرك في رمضان - فقرة عن الرقص العربي بالخيول، أي الرقص الفلاحي – كما جاء في الجريدة – بالإضافة إلى فقرات عديدة من فنون السيرك المعروفة.
القباني في رمضان
يُعد عام 1884م عاماً فارقاً في العروض المسرحية الرمضانية في العالم العربي، حيث بدأ الرائد المسرحي السوري (أحمد أبو خليل القباني) نشاطه المسرحي في مصر – وتحديداً في الإسكندرية – في غرة رمضان عام 1301 هجرية، عندما عرض مسرحية (أنس الجليس) على مسرح قهوة الدانوب، المعروفة بقهوة سليمان بك رحمي بالإسكندرية. وقد أشارت جريدة الأهرام إلى أن الفرقة ستعرض أعمالها طوال شهر رمضان. ولأهمية هذا الحدث نذكر ما نشرته جريدة الأهرام حول هذا الخبر بتاريخ 23/6/1884م، قائلة: " قدم إلى ثغرنا من القطر السوري جوق من الممثلين للروايات العربية يدير أعماله حضرة الفاضل الشيخ أبي خليل قباني الدمشقي الكاتب المشهور والشاعر المفلق وقد التزم للعمل قهوة الدانوب المعروفة بقهوة سليمان بك رحمي في جوار شادر البطيخ القديم والجوق مؤلف من مهرة الفنانين في ضروب التمثيل وأساليبه وبينهم زمرة من المنشدين المطربين تروق لسماعهم الآذان وتنشرح الصدور فنحث أبناء الجنس العربي على أن يتقدموا في عضد المشروع بما تعودوا من الغيرة والتمثيل سيبتدأ به هذه الليلة غرة رمضان المبارك عند الساعة الثانية بعد الغروب (الساعة 6 أفرنجية مساء) وستتوالى في كل ليلة حتى نهاية الشهر وأول رواية تشخص (أنس الجليس) وهي بديعة مسرة وأوراق الدخول تباع في باب المحل بأثمانها المعينة وهي 5 فرنكات للدرجة الأولى و2 للدرجة الثانية وفرنك للدرجة الثالثة وهي قيمة زهيدة في جنب الفوائد المكتسبة".
والجدير بالذكر أن عروض القباني المسرحية في هذا الشهر الفضيل، كانت تتناسب وقيمته الدينية، حيث إن أغلب العروض كانت تاريخية أو تراثية مستوحاة من التاريخ العربي أو الإسلامي أو من تراث ألف ليلة وليلة، ناهيك عن فقرات الاستعراض الفني، التي كانت منتشرة في عروضه المسرحية، والمعروفة برقص (السماح)، وهو رقص مسموح به دينياً، لأنه عبارة عن رقص صوفي ديني منتشر في البلاد الشامية حتى الآن، ويعود الفضل إلى القباني في إدخاله إلى مصر في هذه الفترة. ومن العروض التي قدمها القباني وفرقته المسرحية طوال شهر رمضان عام 1301 هجرية (1884م): نفح الربى، وولادة بنت المستكفي، وعنترة بن شداد، وناكر الجميل، والخل الوفي، والأمير محمود وزهر الرياض، والشيخ وضاح ومصباح وقوت الأرواح.
السماحة الدينية
ومن الجدير بالذكر أن بعض الفنانين المسرحيين من اليهود والنصارى، كانوا يتصرفون في عروضهم وفقاً لقيمة هذا الشهر الفضيل في نفوس المسلمين. فعلى سبيل المثال كوّن المطرب الشامي اليهودي (مراد رومانو) فرقة مسرحية في منتصف رمضان سنة 1303 هجرية (1886م)، وعرض من خلالها مسرحية (الفرج بعد الضيق) على مسرح البوليتياما. وموضوع هذه المسرحية من الموضوعات الاجتماعية الوعظية، التي تتناسب مع العروض الرمضانية الفنية، كما أخبرتنا بذلك جريدة القاهرة بتاريخ 19/6/1886. وفي أوائل رمضان سنة 1305 هجرية (1888م) أحيت جمعية المساعي الخيرية النصرانية ليلة مسرحية، قالت عنها جريدة الأهرام بتاريخ 19/5/1888: " ستحيي جمعية المساعي الخيرية ليلة الاثنين 28 شهر مايو الحاضر [الموافق 17 رمضان سنة 1305] بتشخيص رواية تاريخية أدبية فكاهية في تياترو حديقة الأزبكية يتخلل فصولها الخمسة أنغام الموسيقى العسكرية وستخصص دخل هذه الليلة لطبع كتاب (عقد الدرر في مصر وتاريخها المختصر) فإن لم يكن في معدات تلك الليلة من الأفراح الكاملة ما يُرغب الجمهور للحضور ففي غايتها الجليلة ما لا يحتاج للترغيب وإلا فالعمل الخيري يستدعي التفات الجميع".
وفي رمضان سنة 1308 هجرية (1891م)، أعلنت جريدة الوطن أن الفنان النصراني مرقص جرجس مدير الجوق الوطني الحر، استأجر مسرح لكسمبرج بشارع كلوت بك أمام قهوة اللوفر بالقاهرة لتمثيل مجموعة من المسرحيات الأدبية طوال شهر رمضان المعظم، ومن هذه المسرحيات: يوسف الصديق، وهارون الرشيد، والخل الوفي، وهي مسرحيات دينية تاريخية تتناسب مع الشهر الفضيل.
وفي شهر رمضان سنة 1309 هجرية (1892م) قام الفنان النصراني الشامي سليمان القرداحي بتكوين فرقة مسرحية، جاب بها أقاليم مصر إحياءً للشهر الكريم، حيث عرض مجموعة من المسرحيات في المنصورة وطنطا، منها: مسرحية (الأمير حسن) بتياترو التفريح بالمنصورة كما أخبرتنا بذلك جريدة السرور بتاريخ 28/4/1892، حيث خصص دخل العرض لبطل المسرحية الشيخ سلامة حجازي.
موسم رمضاني غير مسبوق
أما رمضان سنة 1310 هجرية، فكان شهراً فنياً مسرحياً بصورة غير مسبوقة، حيث وافق الشهر الكريم أوج الموسم المسرحي فنياً - الواقع في شهري مارس وأبريل سنة 1893م - ففي هذا الشهر عرضت فرقة إسكندر فرح مسرحيات: تليماك، وعائدة، وحمدان، وولادة بنت المستكفي، وهارون الرشيد والصياد، وهناء المحبين، ومحاسن الصدف، وروميو وجوليت، وأنس الجليس، وهذه العروض تمت على مسرح الفرقة بشارع عبد العزيز، وكانت بطولة المطرب الشيخ سلامة حجازي. كما مثلت فرقة سليمان الحداد مسرحيات: صلاح الدين الأيوبي وريكاردوس قلب الأسد، وحمدان، وشهداء الغرام، وعائدة في الأوبرا الخديوية.
وابتداء من رمضان سنة 1311 هجرية (1894م)، أصبح هذا الشهر الكريم موسماً فنياً مسرحياً عند أغلب الفرق المسرحية العاملة في مصر في تلك الفترة. ففي الأيام الأولى من شهر رمضان 1311 هجرية، وجدنا ميخائيل جرجس – صاحب جوق السرور – يستأجر قاعة كونيليانو ويمثل عليها مسرحية (كرم العرب) ابتهاجاً بقدوم الشهر الكريم، ثم تلاها بمسرحية (بلقيس) كما أخبرتنا بذلك جريدة الأهرام بتاريخ10/3/1894 الموافق الثالث من رمضان سنة 1311، ثم عرض الجوق كذلك – في هذا الشهر – مسرحيات: الأمير محمود مع السبعة ملوك، والملكة كليوباترا، ومحاسن الصدف، والقائد المغربي، والفتاة المفقودة، والعلم المتكلم بطولة المطرب الشيخ إبراهيم أحمد. أما سليمان القرداحي مدير الجوق الوطني المصري فعرض في هذا الشهر مسرحيات: السلطان صلاح الدين الأيوبي، والقائد المغربي، وإستير في الزقازيق بمديرية الشرقية. أما فرقة إسكندر فرح فقد مثلت في الأوبرا الخديوية – طوال شهر رمضان – مجموعة من المسرحيات، منها: حسن العواقب، وحفظ الوداد، والظلوم، واللصوص بطولة الشيخ سلامة حجازي.
ظاهرة تكررت
وإذا أردنا تتبع العروض المسرحية في شهر رمضان في السنوات الخمس المتبقية من القرن التاسع عشر (1895 – 1899م)، سنجدها لا تختلف كثيراً عن عروض رمضان سنة 1894م، ولعدم تكرار الأمر، سنتوقف عند ظاهرة تكررت كثيراً؛ تمثلت في كثرة العروض المسرحية الخيرية لجمع المال من أجل فعل الخير في هذا الشهر الكريم؛ ولكن اللافت للنظر أن الجمعيات الخيرية التي قامت بهذا الأمر كلها جمعيات مسيحية أو يهودية، وكان المال المجموع ينفق على أغراض مسيحية أو يهودية!!
فعلى سبيل أعلنت جريدة الأخبار بتاريخ 13/2/1897 - الموافق العاشر من رمضان سنة 1314 هجرية – أن جمعية التمثيل الأدبي قررت عرض مسرحية (صلاح الدين الأيوبي مع ريكاردوس قلب الأسد) في شهر رمضان بالإسكندرية، وتخصيص دخلها المادي لصالح الجمعية الخيرية الأرمنية. وبالأسلوب نفسه وجدنا إسكندر فرح يمثل مسرحية (مطامع النساء) يوم الرابع والعشرين من رمضان، وخصص دخلها لجمعية المساعي الخيرية النصرانية، كما أخبرتنا بذلك جريدة المقطم بتاريخ 27/2/1897. وفي السابع والعشرين من رمضان سنة 1315 هجرية، قام إسكندر فرح أيضاً بتمثيل مسرحية (السيد) بالتياترو العباسي بالإسكندرية، وخصص " دخلها لجمعية التوفيق القبطية بالإسكندرية لتصرفه على الفقراء والمحتاجين من أبناء الطائفة" هكذا جاء في جريدة مصر بتاريخ 15/2/1898، وفي اليوم نفسه نشرت جريدة البصير هذا الإعلان: " تبرعت جمعية نزهة العائلات بتمثيل رواية (يهوديت) الشهيرة في مرسح الحمراء في الساعة التاسعة مساء يوم 19 الجاري [الموافق 28 رمضان سنة 1315] وتخصيص دخلها لجمعية الإخاء الإسرائيلية الخيرية بالإسكندرية وقد أعدت الجمعية المشار إليها جميع المعدات اللازمة لإتقان هذه الليلة الخيرية".
الموضوع الأصلي من موقعي الشخصي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق