القيمة العلمية لمتحف الشيخ فيصل
أ.د سيد علي إسماعيل
ــــــــــــــ
أتريد أن تشاهد آلهةً من العصر الجاهلي؟ أتود أن تلتقي بآثار من العصور الإسلامية؟ أتريد أن تستمتع برحلة إلى البرّ؟ عش ساعات جميلة بين كل هذا وبصحبة زملائك من الكلية، وذلك بزيارة متحف الشيخ فيصل بن قاسم بالشحانية في دولة قطر!!
هذه الكلمات أرسلتها لجنة أنشطة أعضاء هيئة التدريس بكلية الآداب والعلوم بجامعة قطر إلى كل أستاذ من أجل القيام برحلة إلى هذا المتحف المتميز. وقد نجحت اللجنة في إثارة فضول أساتذة الكلية، باختيارها لعبارات هذا الإعلان! فمن منا شاهد آلهة العرب في العصر الجاهلي؟! ومن منا شاهد عن قرب آثار العصور الإسلامية في مختلف نواحي الحياة؟! ورغم الفضول الذي انتابني على المستوى الشخصي، إلا أنني ذهبت في هذه الزيارة متوهماً بأنه سيكون متحفاً محدوداً في مقتنياته وإمكاناته، لأنه متحف شخصي يضم مقتنيات أحد شيوخ دولة قطر! ولحُسن الحظ أن هذا الوهم أصبح سراباً عندما اقتربت السيارة من منطقة الشحانية فنظرت لأجد المتحف – من الخارج – عبارة عن قلعة كبيرة مبنية على طراز القلاع العسكرية، أو المدن العربية المحصنة في العصور الإسلامية القديمة، فاقتنعت بأنني سأحظى بمشاهدة لن تُنسى، وبمتعة علمية لا تُقدر بثمن.
بدأت الزيارة بمفاجأة سارة – لم تكن في الحسبان – عندما وجدنا صاحب المتحف بنفسه الشيخ فيصل بن قاسم بن فيصل آل ثاني يستقبلنا بحرارة بالغة وبتواضع جم، بل ويصرّ على أن يكون مرشدنا في زيارتنا، رغم وجود موظفي المتحف المسؤولين عن ذلك. هذه الحفاوة أثلجت صدورنا وجعلتنا نلتهم بأعيننا جميع مقتنيات المتحف، التي فاقت في قيمتها وروعتها مقتنيات بعض المتاحف العامة لبعض الدول، ولِمَ لا وهذا المتحف عضو في المجلس العالمي للمتاحف بمنظمة اليونسكو، التي قدرت مقتنياته بمليارات الدولارات!
ولهذا المتحف العظيم قصة، يرويها الشيخ فيصل لزائريه، حيث بدأت هوايته منذ الطفولة في جمع الطوابع البريدية والعملات الورقية والمعدنية، وكان يشارك بهذه المقتنيات في المعارض المدرسية عندما كان طالباً. وتطورت الهواية - بفضل ما سمعه في المجالس عن تاريخ العرب وتراث الأمم الإسلامية – إلى قيامه برحلات صحراوية في برّ قطر لجمع المقتنيات الحجرية من السهام والأواني الفخارية. وبلغت الهواية قمتها، بفضل توجيه وتشجيع والده المرحوم الشيخ قاسم بن فيصل آل ثاني، الذي دفعه لزيارة معظم بلاد العالم لمشاهدة متاحفها والاطلاع على تاريخها وتراثها، فاستطاع أن يجمع مجموعة هائلة من مقتنيات تاريخ العرب والمسلمين، وتراثهم المتنوع عبر العصور المختلفة، لتشكل هذه المقتنيات متحفاً ينافس متاحف عالمية في قيمتها وروعتها وأصالتها.
الوصف
متحف الشيخ فيصل مُقسم إلى قاعات عديدة، كل قاعة تضم مجموعة من المقتنيات ذات الصلة بالنوع المعروض، ومن ذلك قاعة تضم الأواني المعدنية والفخارية والزجاجية وأعمال السيراميك، وأخرى تضم الأسلحة الإسلامية من سيوف وخناجر وبنادق ومسدسات، وثالثة تحتوي على السجاد والمطرزات والعملات الورقية، ورابعة تضم الحُلي والمشغولات الذهبية والفضية، وخامسة تضم الأعمال الخشبية، وسادسة تضم المخطوطات والمنمنمات، وسابعة – تحت الإنشاء – تضم مراكب الصيد والغوص والتجارة.
وإذا تجولنا في أروقة هذه القاعات، سنجد قاعة الأواني الفخارية والمعدنية تضم – على سبيل المثال – مجموعة هائلة من الجرار والأباريق والمصابيح والكاسات والطاسات والصناديق والسراحيات والمسرجات والمرشات والشكروانات والشمعدانات والقناني والمباخر والمزهريات والصحون والخزفيات المزججة وقطع السيراميك، أغلبها مجموع من دول وعواصم ومدن عديدة مثل: دمشق والعراق وإيران وكاشان ونيسابور وخراسان وسلطان أباد وطهران وتركيا والجزائر والمغرب وأسبانيا وفرنسا. وبعض هذه المقتنيات بها نقوش بارزة وأصباغ نباتية مكتوب عليها بالخط الثلث والكوفي ومكفتة (مطعمة) بالفضة والذهب، وهي من عصور تاريخية متنوعة، يقع تاريخ صنعها بين القرنين الثامن والتاسع عشر الميلاديين. وهذه المقتنيات تعكس بجلاء تطور صناعة الفخار والخزف في العصور الإسلامية. ويبرز في هذا القسم مجموعة برونزية دمشقية من القرن الثامن عشر الميلادي، تضم مزهرية وأبريقاً وصينية مطعمة بالفضة ومكتوب عليها أنها مهداة إلى دولة سوريا الداماد أحمد ناجي بيك.
أما قاعة الأسلحة فضمت صنوفاً مختلفة من الأسلحة الإسلامية وأدوات الحرب من سيوف وخناجر ورماح ودروع وصولجانات وخوذات، لم تعكس فقط مهارة الصانع في دقة صُنع نصل السلاح وحدته، بل عكست بجلاء قدرته الفنية ومهارته في نقش المقبض والنصل والغمد، ليصبح هذا الفن فارقاً ومميزاً لنوع السلاح واسمه، ومن خلال ذلك يتعرف زائر المتحف على الخناجر والسيوف الحضرمية واليمانية والعمانية والخليجية والمغربية والعثمانية والصفوية والمغولية، المحفور عليها آيات قرآنية مطعمة بالذهب والفضة، مجلوبة من الهند وعمان وقطر واليمن والحجاز وكردستان وإيران وداغستان وفاس والجزائر وتركيا وبغداد.
أما قسم المطرزات فيضم مجموعة كبيرة من الأقمشة المطرزة وأغطية الرؤوس والوجوه (البرقع) والقفاطين والشراشف والسروج والسجاد، مع بعض الأدوات المستخدمة في هذه الصناعة مثل الأختام الخشبية التي تُستخدم في طبع النقوش على الأقمشة. ومقتنيات هذا القسم جُمعت – كسابقاتها – من مختلف البلاد العربية والإسلامية في مختلف العصور. وهذا القسم أيضاً يضم الأوراق المالية القديمة، وقد وُضعت هذه الأوراق في لوحات زجاجية ضخمة تبعاً للدولة. ومن اللافت للنظر أن هذا القسم حظى باهتمام بالغ من قبل الشيخ فيصل، تبعاً لهوايته الأولى منذ الطفولة، وقد تعجبت من وجود ورقة نقدية مكتوب عليها باللغتين الصينية والعربية، فبادر الشيخ فيصل بتوضيح الأمر قائلاً: بأن هذه النقود كانت مخصصة للمسلمين في الصين!
وفي المتحف أيضاً قسم خاص بالحُليّ والمشغولات الذهبية والفضية، ضم الكثير من الأقراط والحلقان والأساور والخواتم والمعلقات والقلائد والأحزمة والأطواق والأحجال (الخلاخيل) والأطقم الكاملة المطعمة بالأحجار الكريمة المستخدمة في زينة المرأة عبر العصور العربية والإسلامية المختلفة.
كذلك ضم المتحف كثيراً من المقتنيات الخشبية مثل: الصناديق والقباقيب والكراسي والرفوف والشبابيك والأبواب، المصنوعة من أفخر أنواع الأخشاب المنقوشة بالألوان والمطعمة بالأصداف وعليها كتابات بخطوط عربية متنوعة تمثل مختلف العصور الإسلامية. أما قسم المخطوطات والمنمنمات، فضم مجموعة قيمة من أصول المخطوطات العربية النادرة مثل: كتاب شرح اللمعة النورانية للبسطامي، وكتاب حرز النجاة لابن سليمان، وكتاب قطر الندى للأنصاري، وكتاب دلائل الخيرات، وكتاب العجالة الشرقية على الرسالة الفتحية، وكتاب علم الفلك، ومنمنمات ورقية من الشاهنامة للشيرازي.
إلى هنا تنتهي زيارة الزائر إلى متحف الشيخ فيصل، وعند خروجنا من باب القلعة (المتحف) دعانا الشيخ إلى قلعة مجاورة، علمنا منه أنها تكملة للمتحف تحت الإنشاء بها مقتنيات لم يتم تجهيزها للعرض بعد، ولكنه رغب في رؤيتنا لها، وكم كانت دهشتنا عندما علمنا أن الشيخ يقوم بنفسه بوضع المقتنيات في أماكنها ويختار لها زاوية العرض المناسبة، وأنه يمكث أياماً كثيرة إلى وقت متأخر من الليل في سبيل الاعتناء بمقتنياته. هذا الجزء – تحت الإنشاء – ضم مجموعة ضخمة من مراكب الصيد والغوص والتجارة، ومقتنيات أخرى مثل الجرامافونات الموسيقية وبعض الدراجات والسيارات القديمة التي يرجع تاريخ صنعها إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.
القيمة
من الصعب على المرء تحديد قيمة هذا المتحف، فإذا كانت منظمة اليونسكو قدرته مالياً بثلاثة مليارات من الدولارات، فإنه من وجهة نظري الشخصية لا يُقدر بثمن! فهل التاريخ يُقدر بثمن؟ وهل الحضارة تُقدر بالمال؟ ورغم ذلك فهناك قيمة أخرى لفتت انتباهي أثناء تجوالي بين مقتنيات هذا المتحف، وهي القيمة العلمية التي من شأنها تفسير وتوضيح بعض المفاهيم والأحكام والحقائق التاريخية. وسأضرب عدة أمثلة على ذلك من وجهة نظري.
أولاً: وجود مزهرية سيراميك من طهران في القرن التاسع عشر الميلادي، منقوش عليها قصة مصورة بالألوان، تحكي قصة الشيخ صنعان أول رحالة إيراني ذهب إلى أوروبا لنشر الدين الإسلامي. وفي أوروبا أرادت إحدى الأميرات النصرانيات الدخول في الإسلام، فعرضت على الشيخ شروطاً قاسية كي تستجيب لدعوته، فوافق الشيخ مجيباً عليها بأن جمالها وتضحيتها تستحق منه أن يلبي شروطها، فما لبثت الأميرة أن آمنت بالإسلام إكراماً لهذا الشيخ، وتزوجت منه والتزمت بدعوته لنشر الدين الإسلامي. وهذه المزهرية بما عليها من قصة رومانسية مصورة تدل على أن المسلمين عرفوا فن القصة مبكراً – ولا سيما الرومانسية منها - ولم تكن معرفتهم بهذا الفن في أوائل القرن العشرين كما هو مدون في الدراسات الحديثة. بل أن المزهرية تدل بشكل قاطع أن المسلمين عبروا عن قصصهم بصورة مبتكرة عن طريق التصوير الخزفي قبل أن يعبروا عنها بالقلم والتدوين، إضافة إلى ابتكارهم وسيلة النشر بالمزهريات قبل النشر عن طريق الصحف السيارة والكتب المطبوعة.
ثانياً: لاحظت أن مخطوطة كتاب دلائل الخيرات تشتمل على صورتين مرسومتين للكعبة المشرفة ولقبر الرسول صلى الله عليه وسلم. وهذه المخطوطة جاءت من الجزائر ومؤرخة بالقرن الثامن الميلادي. وبالنظر الدقيق لرسم الصورتين يتضح أنه رسم تجريدي تبعاً للمدرسة التجريدية في الفن التشكيلي، التي تحوِّل المناظر إلى مربعات ومثلثات .. إلخ، وهذا بالضبط ما قام به كاتب المخطوطة في رسمه. وهذه المخطوطة تثبت أن المسلمين عرفوا الرسم التجريدي في القرن الثامن عشر الميلادي، قبل أن يعرفه العالم الغربي – بألف سنة - في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي على يد ألكساندر كالدر وبيكاسو وبيت موندريان وكاندينسكي وغيرهم.
ثالثاً: تتحدث كتب التاريخ عن المغول ووحشيتهم في حروبهم وإغارتهم على الشعوب الأخرى، وهذه الوحشية ربما لا نشعر بها أثناء قراءة الكتب، ونكتفي بتخيلها، ولكننا نراها مجسدة ونشعر بها ملموسة بواسطة مقتنيات المتحف، عندما نرى الأسلحة المغولية الشرسة، ولا سيما الخنجر المغولي ذي النصلين المعقوفين السميكين، الذي يمزق الأحشاء بنصليه ويستخرها بانحنائهما، وبهذا الوصف تكون طعنته قاتلة لا محالة. كذلك السكين المغولي الذي يتحول نصله إلى نصلين بزاوية حادة عند الضغط على مقبضه. أما السيوف المغولية فهي متنوعة في الشكل مشتركة في صفة واحدة وهي المبالغة في عُرض النصل الذي لا يُستخدم في المبارزة والطعن فقط، بل في شق الإنسان إلى نصفين!
رابعاً: من المعروف أن قصة مجنون ليلى الشهيرة - التي سجلها أبو الفرج الأصبهاني في كتابه الأغاني – انتقلت إلى فارس باعتبارها قصة صوفية على يد الشاعر سعدي الشيرازي. والمتحف يضم مطرزة إيرانية من أصفهان يعود تاريخها إلى العهد الصفوي. وهذه المطرزة تحكي قصة المجنون بالتطريز المصور، لتضيف مرجعاً ملموساً لهذه القصة الصوفية، بل وتعكس لنا خيال الفنان المسلم لشخصيات هذه القصة وتعبيراتهم الدرامية المصورة.
خامساً: من الثابت تاريخياً – تبعاً لنقوش المعابد والتماثيل – أن الفراعنة كانوا يقدسون ثعبان الكوبرا، ويضعونه على تيجانهم فوق رؤوسهم رمزاً للتقديس، ودرأً للأخطار. وهذا التقديس سرى في وجدان شعوب شرق آسيا على شكل اعتقاد ديني (عبادة) لاسيما في الهند. أما المرأة العربية المسلمة، فقد تأثرت قديماً – وحتى الآن - بهذا الاعتقاد وجدانياً وشعبياً، ويظهر هذا التأثر جلياً في زينتها من المشغولات الذهبية والفضية. ولا أظن أن هناك امرأة عربية لم تتزين يوماً ما بعقد أو سوار أو حجل (خلخال) مصنوع على شكل ثعبان لاسيما الكوبرا، دون أن تسأل نفسها لماذا هذا الحيوان المنبوذ – الثعبان – تتزين به؟! ولماذا تُصنع أغلى الجواهر والمشغولات الذهبية والفضية على شكل ثعبان؟! ومقتنيات المتحف تثبت هذا الاعتقاد الشعبي على مر العصور، حيث نجد العقد (القلادة) الذي يلتف حول الرقبة على صورة ثعبان، حفاظاً على حياة صاحبته. ونجد كذلك السوار على هيئة الكوبرا دلالة على سخاء وعطاء اليد، وأخيراً نجد الحجل على شكل الكوبرا حماية ومباركة لخطوات من ترتديه. ومن الملاحظ أن شكل الكوبرا لا يُصنع إلا في المشغولات التي تحيط بالجزء من الجسم إحاطة كاملة، لذلك هي تأتي في القلادة لتلتف حول العنق، وفي السوار لتلتف حول المعصم، وفي الحجل لتلتف حول القدم دلالة على الشمول واكتمال الرعاية والحماية والحفاظ على الشخص، كما يُعتقد في التراث الشعبي الوجداني.
سادساً: قبل الانصراف من المتحف، تذكرت السؤال المطروح في إعلان الرحلة: أتريد أن تشاهد آلهة من العصر الجاهلي؟! وتعجبت لأنني لم أشاهد هذه الآلهة، فبادرني أحد الزملاء بقوله: لقد رأيتها قي قاعة المخطوطات، وعلى الفور عدت مرة أخرى إلى القاعة، لأجد دولاباً زجاجياً صغيراً به بقايا بعض الثماثيل الحجرية الصغيرة، التي تبلغ طول إحداها 10سم! رغم أن الصورة المرسومة في أذهاننا عن آلهة العرب في العصر الجاهلي، أنها تماثيل فارهة الطول كبيرة الحجم! وذكر الشيخ فيصل إنه جمعها من رحلاته في صحراء الجزيرة العربية، بعد توقف الرياح العاتية وهطول الأمطار الغزيرة والسيول التي تجرف الرمال وتحرك الكثبان الرملية، فتظهر الصخور والأحجار المدفونة في الرمال عبر العصور. والملاحظ – من وجهة نظري - أن هذه التماثيل ما هي إلا نماذج مُصغرة على شكل تمائم كان العربي القديم يتبرك بها، ويحملها في رحلاته بين الأقطار، أو هي أشكال حجرية كانت تُصنع للأطفال من أجل التبرك أو اللعب بها. ومهما كانت حقيقة هذه التماثيل أو التمائم، إلا أنها تعكس نوعاً من الفن التشكيلي برع فيه العربي القديم.
ولا تتوقف قيمة متحف الشيخ فيصل عند هذا الحد، فمقتنيات المتحف تمد أغلب الدارسين بأمور علمية وحقائق تاريخية واجتماعية وفنية واقتصادية، تساعدهم على فهم وتفسير تاريخ العرب وحضارتهم الإسلامية عبر العصور المختلفة.
الموضوع الأصلي من موقعي الشخصي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق