النقد الذاتي للإبداع المسرحي
علاء الجابر نموذجاً
أ.د سيد علي إسماعيل
كلية دار العلوم – جامعة المنيا (مصر)
ـــــــــــــــ
تمهيد :
للكاتب المسرحي دور مُحدد، ينتهي بانتهاء التأليف وخروج العمل – إلى الجمهور - في شكل نص مطبوع، أو عرض مسرحي معروض على خشبة المسرح. وللناقد المسرحي دور أيضاً، ينتهي بانتهاء نقده، وخروجه في شكل كتاب أو مقال أو بحث منشور. وحتى الآن لم نسمع بأن كاتباً مسرحياً قام بدور الناقد؛ فنقد كتاباته المسرحية، وهذا اللون من النقد يُسمى النقد الذاتي. وربما نجد إرهاصات لهذا النقد الذاتي في بعض السير الذاتية، أو اليوميات، أو الاعترافات .. إلخ؛ ولكنها إرهاصات طفيفة، عبارة عن آراء أو انطباعات أو عبارات مقتضبة لا تصل إلى النقد الكامل!
وعلاء الجابر الكاتب والناقد المسرحي – المُقيم في الكويت – هو أول من طبق النقد الذاتي على أغلب إبداعاته المسرحية – حسب علمي - وأخرج تجربته النقدية هذه في كتاب عام 2005م، تحت عنوان (مسرحياتي كما أراها الآن). وهذه التجربة سيتناولها البحث بهدف الوصول إلى مصداقية الناقد عندما يتناول بالنقد أعماله الإبداعية (نصاً وعرضاً)، وجدوى نقد الأعمال الإبداعية، التي عُرضت – أو كُتبت – في زمن يختلف عن زمن تناولها النقدي. كذلك التعرف على قيمة النقد الذاتي بالنسبة للمُبدع، وهل نقده لأعماله سيؤثر سلباً على إبداعه السابق، وإيجاباً على إبداعه اللاحق؟ كما سيحاول البحث الإجابة عن عدة أسئلة، منها: هل يحق للمبدع ارتداء ثوب الناقد، وما جدوى ذلك؟ وهل نقد المُبدع لإبداعه يُمثل نهاية النقد، وعدم قبول أي نقد آخر؟! .... إلخ هذه الأسئلة.
وكتاب (مسرحياتي كما آراها الآن)، يشتمل على (نصوص/نقد) ست مسرحيات لعلاء الجابر، هي: سالي، علاء الدين 92، نعنوعة، بونوكيو، أليس في بلاد العجائب، كونان في أرض البوكيمون. ومن خلال قراءة نقد الكاتب لنصوص أعماله، وعروضها على خشبة المسرح بما تشتمل عليه من عناصر: الإخراج، والديكور، والأغاني، والأزياء، والألحان، والتمثيل ... إلخ، أستطيع أن أحدد عدة محاور سيتناولها البحث بالنقد والتحليل، ومنها: الهدف من قيام الكاتب بنقد أعماله المسرحية ذاتياً، وذلك من أجل الاستمتاع بنقد أعماله فنياً - حيث إن الكاتب ناقد فني من طراز فريد في الصحافة الكويتية - وكأنه كتب ما تمنى أن يقرأه في نقد الآخرين، وكذلك من أجل الاهتمام - نقدياً - بنقاط محددة في أعماله المسرحية، لم يلتفت إليها النقاد الذين تناولوا هذه الأعمالها في حينها.
ومن الأمور اللافته للنظر - في نقد الكاتب لأعماله ذاتياً – تبرئة نصوصه من معظم السقطات الأدبية والفنية، وأحال سبب هذه السقطات إلى تدخل الآخرين في نصه – عندما أصبح عرضاً مسرحياً - وإفساد بعض أهدافه التربوية والتعليمية، أمثال المخرج والممثل النجم .. إلخ. وهذا لا يعني أن المؤلف لم يعترف ببعض سلبيات قام بها في نصوصه؛ ولكنها سلبيات طفيفة، ربما تعمد إظهارها ليستقيم نقده الذاتي، ويحقق أهدافه من فكرة النقد الذاتي في كتابه. وأخيراً نجد الكاتب يهتم اهتماماً خاصاً بالجانب التوثيقي في نقده الذاتي، حيث أشار إلى كل توثيق مفيد في عملية التأريخ المسرحي؛ حيث أشار إلى أن هذا العمل – مثلاً – هو أول عمل لهذا الممثل أو لهذه الممثلة، وأن هذا الإنتاج هو الأول لمنتج محدد .. إلخ. وهذا الجانب يُعد من إيجابيات كتاب الجابر، وله علاقة كبيرة بكتاب توثيقي – للمؤلف نفسه – نُشر تحت عنوان (مسرح الطفل في الكويت) ([1]).
أهداف البحث :
أهداف هذا البحث متعددة، ومتداخلة في آن واحد! وربما لا أستطيع تحقيقها – بصورة كاملة - في هذه الوريقات البسيطة؛ لأنها أهداف تتعلق بنوع جديد في مجال النقد الأدبي، ألا وهو النقد الذاتي في مجال المسرح! ولأن هذا النوع النقدي جديد فمن العسير الإلمام بجميع جوانبه في دراسة واحدة، لا سيما وأن تجارب النقد الذاتي في مجال الأدب، تكاد تكون معدومة! من أجل ذلك سأكتفي بصياغة أهداف البحث في صورة أسئلة متوالية – ظهر بعضها في تمهيد البحث، وسيظهر البعض الآخر من حين إلى آخر بين سطور الدراسة - وسأجتهد - قدر استطاعتي – في الإجابة عن بعضها في سياق البحث، وعن البعض الآخر في نهاية البحث.
وهذا المنهج في صياغة الأهداف، يتناسب مع قول (علاء الجابر) عن تجربته في النقد الذاتي: " قد تكون مغامرة متهورة! مغامرة نصحني كثير من الأصدقاء الابتعاد عن خوضها، مشفقين عليّ من نتائجها! لكنني حسمت منذ البداية أن أكمل الدرب الذي رسمته لنفسي للوصول إلى الحقيقة مهما كان لها طعم مُرّ في جوفي" ([2]). وهذا القول، ربما يتشوق القارئ لمعرفة صاحبه، ودوره في مجال المسرح ونقده، وهو شوق مشروع، طالما إن الدراسة ستتعلق بالجابر وتجربته الرائدة في مجال النقد الذاتي!
علاء الجابر :
كاتب وناقد مسرحي – مُقيم في الكويت - أشرف على القسم الثقافي في جريدة الوطن من عام 1997 إلى 2001، ومحرر في صفحة (فكر وفن) بجريدة الوطن الكويتية من عام 1991 إلى 1996، ونشر الكثير من المقالات والمتابعات الفنية في العديد من المجلات الكويتية والخليجية. عمل باحثاً في ثقافة الطفل بالمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت) من عام 1987 إلى 1990. فاز بجائزة أفضل مقال عن الملكية الفكرية عام 1999. كتب أكثر من مائة أغنية للأطفال، والعديد من الأوبريتات للأطفال، وأصدر العديد من أشرطة (الكاسيت) لأغاني الأطفال. يعمل مُعدّاً لبرنامج الأطفال في تليفزيون الكويت منذ عام 2001، وأعدّ برامج أخرى للكبار، ونال الجائزة الأولى في مهرجان الإذاعة والتلفزيون في القاهرة عام 2002، وحصل على الجائزة التقديرية في مهرجان الإذاعة والتلفزيون بالقاهرة عن تأليفه لتمثيلية الأطفال (يوميات طفل غاضب) عام 2003. عضو في لجان عديدة للنقد المسرحي والفن التشكيلي والشعر وثقافة الطفل، وعضو مُحكم لأول جائزة للجنة اختيار أفضل نقد لمهرجان الكويت للمسرح المحلي عام 2000، وعضو مُحكم للدراسات الشعرية لجائزة سعاد الصباح عام 2001. ألقى محاضرات عديدة حول الصحافة ومسرح الطفل في المحافل الثقافية وفي المدارس وفي كليات جامعة الكويت. قُرر كتابه (في سماء الكويت) عام 1986 ضمن منهج أدب الأطفال المُقرر على طلبة جامعة الكويت، كما قُرر نص مسرحيته (كونان في أرض البوكيمون) على طلبة الدراسات الدرامية في المعهد العالي للفنون المسرحية بالكويت. وقُرر كتابه (مسرح الطفل في الكويت) على طلبة منهج أدب الأطفال في جامعة الكويت. قدم لطلبة المعهد العالي للفنون المسرحية ضمن مشاريع التخرج مسرحية (ورغم أنهم موتى) عام 2000. شارك في العديد من الملتقيات حول ثقافة الطفل والمسرح في الكويت وبعض الدول العربية والأوربية. عمل في مسرح الطفل منذ عام 1986، وشارك في عشرات المسرحيات كمؤلف ومُعدّ وكاتب للأغاني، ومنها خلافاً لما ورد في هذا البحث: رحلة حول العالم 2001، والرجل الذئب 2002، والمسامير 2005، والملك المزيف 2008. صدر له كتاب (مسرح الطفل في الكويت: دراسة توثيقية إحصائية) عام 2004.
النقد الذاتي :
يقول علاء الجابر في مقدمة كتابه (مسرحياتي كما أراها الآن): "لم أسمع – على حدّ علمي – وأرجو أن لا يعتبر البعض ذلك غروراً مني ويزودني بما يصحح المعلومة لدي – بقيام شخص عاقل بذبح إبداعاته على مقصلة النقد، وهذا ما قمت به حين تصديت لمهمة نقد أعمالي المسرحية" ([3]). وقبل مناقشة هذا القول، يجب علينا تدقيق النظر في عبارته (ذبح الإبداع على مقصلة النقد)؛ لأن هذه العبارة تعكس لنا مفهوم الجابر للنقد المسرحي، حيث إنه مقصلة لإعدام الإبداع نصاً وعرضاً. والذي يقرأ نقد الجابر بصفة عامة في كتاباته - بوصفه ناقداً مسرحياً قبل أن يكون مُبدعاً – يستدل على هذا المفهوم، لأنه ناقد ملتزم بقواعد النقد في شدتها ورصانتها وقسوتها! ومن النادر أن تجد في نقده مجاملة أو محاباة حتى لأقرب أصدقائه من المبدعين والكُتّاب والفنانين؛ ولكن هل مارس الناقد علاء الجابر هذه الشدة والرصانة والقسوة في نقده لأعماله الإبداعية المسرحية (نصاً وعرضاً)؟! هذا ما سنحاول كشفه في سياق البحث.
أما كون الجابر هو أول عاقل قام بذبح إبداعاته على مقصلة النقد – حسب قوله السابق – ويطلب منا تصحيح هذه المعلومة، فإنني أوافقه وأخالفه الرأي في آن واحد! أوافقه لأنه أول مبدع مسرحي يقوم بنقد إبداعاته المسرحية بصورة كاملة شاملة، دون أي ضغط أو طلب من الغير ليقوم بذلك، وهذه حقيقة يجب الاعتراف بها! وفي الوقت نفسه أخالفه؛ لأن هناك بعض الإرهاصات - لهذا النقد الذاتي - قام بها بعض النُقاد والمبدعين السابقين؛ ولكنهم قاموا بذلك بناءً على طلب آخرين، ولم تأتِ مبادرتهم هذه من تلقاء أنفسهم، ولم تُنشر في كتاب كامل متخصص؛ كما فعل الجابر في تجربته الفريدة هذه.
حدث هذا عام 1954، عندما طرحت مجلة (الآداب) اللبنانية على بعض المبدعين والنقاد سؤالاً يقول: (ما رأيكم في مؤلفاتكم؟ إنه سؤال لا يخلو من إحراج؛ ولكننا نرجو ألا يحول ذلك دون الإجابة عنه) ([4]). الطريف أن معظم من أجابوا أجمعوا على أن مؤلفاتهم ملك للقراء والنقاد وهم فقط الذين يحكمون عليها. فعلى سبيل المثال قال الدكتور طه حسين: "إن كتبي السابقة لا تعنيني. فأنا لا أفكر فيما أصدرت، وإنما أفكر فيما أحب أن أصدر. فليس لي إذن رأي في كتبي إلا أنها تصور عقلي وشعوري حين أمليتها. فأما بعد أن يأخذها القراء، فأمرها إليهم وإلى الله". أما سلامة موسى فقال: "لست راضياً كل الرضى عما ألفت من كتب أو أصدرت من مجلات. وذلك لأني كنت مقيداً بقوانين تحظر حرية الفكر. بل كذلك كنت هدفاً لاضطهاد المستبدين والمستعمرين الذين كانوا يمنعون طبع مؤلفاتي أو يخطفونها من المكتبات أو يعتقلوني". ثم تحدث بإيجابية عن كتابين له، هما: (تربية سلامة موسى) و(نظرية التطور وأصل الإنسان)، واختتم رأيه قائلاً: "لقد ذكرت اثنين من مؤلفاتي. أما الباقي فأتركه لحكم القراء".
وهناك آراء كثيرة ذُكرت من قبل: نازك الملائكة، وذي النون أيوب، والدكتور عمر فروخ، ومارون عبود؛ ولكنني سأتوقف عند (ميخائيل نعيمة)؛ لأنه تحدث عن مسرحيته (الآباء والبنون) - وهو الإبداع الذي يعنينا في هذا البحث – قائلاً: "هي مسرحية كتبتها في ثلاثة أسابيع إثر تخرجي من الجامعة سنة 1916. وقد نشرتها مجلة (الفنون) في أعداد مسلسلة، ثم أصدرتها كتاباً عام 1917. ونفذت طبعتها الأولى من زمان. فما فكرت في إعادة طبعها من غير أن أجري فيها الكثير من التحوير والتعديل، وخشيت إن أنا تناولتها اليوم بقلمي وفكري وذوقي أن تخرج من يدي". وهذا يعني أن ميخائيل نعيمة لم يرغب في إعادة طبعها مرة أخرى خشية تعديل مثالبها أو هناتها، وأيضاً رفض تناولها بالنقد خشية أن تخرج من بين يديه!! وهذا يعكس لنا شجاعة علاء الجابر، الذي اقتحم وحده مجالاً لم يجرؤ عليه كبار النقاد والمبدعين.
الجابر بين سلبياته وإيجابياته
مما سبق يتضح لنا أن علاء الجابر اقتحم مجال النقد الذاتي - بوصفه رائداً فيه – والسؤال الذي يطرح نفسه: كيف استطاع الجابر أن يكون ناقداً لأعماله الإبداعية المسرحية .. أي أن يكون ناقداً لنفسه؛ ويصبح الناقد والمبدع في آن واحد؟! وكيف سيكون المحامي المدافع عن أعماله، وفي الوقت نفسه يكون القاضي الذي يحكم على هذه الأعمال؟! يقول الجابر – في مقدمة الكتاب – عن هذه الإشكالية: " هذا ما قمت به حين تصديت لمهمة نقد أعمالي المسرحية، على ما في ذلك من صعوبة في انتزاع ذاتي النقدية من جسدي ومحاسبة نفسي وكأنني أحاسب شخصاً غيري، فأضع العمل المسرحي في ميزان النقد وأكيل سيئاته وحسناته – إن كانت له حسنات – مركزاً على نقد النص والعرض" ([5]).
وهذا القول يعني أن الجابر سيوجه اهتمامه نحو إظهار (السيئات/السلبيات) أكثر من اهتمامه بـ(الحسنات/الإيجابيات)؛ لأنه يعتقد عدم وجود حسنات في أعماله!! وفي السطور التالية، سنحاول أن نكتشف كيف طبق الجابر قوله هذا بصورة عملية؟! أي سنتوقف عند (سيئات/سلبيات) أعماله الإبداعية المسرحية – كما طرحها – وكذلك سنحاول الوقوف على (حسنات/إيجابيات) هذه الأعمال، التي تكاد لا تذكر بناءً على حكم صاحبها.
سلبيات الجابر
تُعد (سيئات/سلبيات) علاء الجابر – وفقاً لأقواله السابقة - المحور الرئيس، الذي سيبني عليه نقده الذاتي! أليست هذه السلبيات هي التي ستضع أعماله الإبداعية تحت شفرة المقصلة؟! وهذا يعني إنها سلبيات لا تُغتفر، وبسببها – وربما لكثرتها – قرر الجابر نقد أعماله؛ كنوع من التطهير؛ وكأنه يقوم بتخليص نفسه من وزرها! لذلك سنتتبع هذه السلبيات – كما ذكرها الجابر – ونحللها وفق المنطق النقدي، لنرى مصداقيته فيها، وسنحاول أن ندلي برأينا فيها من حيث قيمتها الفنية، وأثرها على العمل الإبداعي المسرحي، من أجل الوصول إلى قناعة بأن هذه السلبيات تستحق النقد الذاتي من صاحبها إلى مبدعها، وهو علاء الجابر الناقد والمبدع في آن واحد.
في مسرحية (سالي) ([6]) يأتي حوار بين صاحب المدرسة والناظرة، مفاده أن الناظرة لا تفرق بين الطالبات؛ بينما صاحب المدرسة يفرق بينهن، وفقاً لثراء والدهن، ويختتم حواره مع الناظرة بقوله: "أنا عندي كل شيء بحسابه ... أنا ما تهمني البنت من تكون أنا يهمني شنو راح أستفيد من أبوها" ([7]). وهذا القول يُعده علاء الجابر – مُعدّ النص – من سلبياته، قائلاً: "وأعتقد بأن المُعدّ لم يوفق بإضافة الجملتين الأخيرتين على لسان (سالم) فقد يكون (سالم) جشعاً بحق، ولكن ما الداعي لإصراره على إبراز جشعه أمام الناظرة، وكان يكفي أن يرد عليها بأن هذه أوامري (كصاحب المدرسة) ولابد من تنفيذها، دون أن يعلن عما يضمر"([8]).
هذه السلبية – من وجهة نظري – طفيفة جداً، ولا تُعدّ سلبية بالمعنى المفهوم، ولا تستحق من المُعدّ جلد نفسه بسببها؛ لأن رأيه هذا مردود عليه، وبمنطق مقبول! يتمثل في أن صاحب المدرسة أبرز جشعه أمام الناظرة؛ ليكون قانوناً لها، حتى لا تناقش هذا الأمر معه مرة أخرى؛ خصوصاً وأن هذا الأمر – ربما - سيتكرر كثيراً في المستقبل، طالما أن صاحب المدرسة جشع، وأن هذه المدرسة تستقبل غالباً أولاد الأثرياء! لذلك كشف صاحب المدرسة عما يضمره للناظرة؛ ليُحسم قضية أساسية في سياسة مدرسته حالياً ومستقبلاً.
أما السلبية الثانية – في مسرحية سالي أيضاً – فذكرها الجابر تحت عنوان (تناقض غير مبرر)؛ حيث لاحظ أن والد سالي الثري يستخدم الطائرة في تنقلاته، ورغم ذلك يتواصل مع ابنته عن طريق الرسائل، ولا يتواصل معها عن طريق الهاتف!! قائلاً: " وهنا يقع المُعدّ في خطأ، فمدام والد (سالي) يستخدم الطائرة في تنقله فمن الطبيعي أن يصاحب الأمر وجود هاتف. وبالتالي ما الذي دعاه لاستخدام الطائرة وسيلة للانتقال وعدم استخدام الهاتف وسيلة للاتصال؟! الأمر غير مقنع إلا إذا كانت المدرسة ترفض تواصل أولياء الأمور مع بناتهن هاتفياً وهذا ما لم يظهره النص" ([9]).
هذه السلبية – من وجهة نظري – لا تُمثل إشكالية كبيرة في سياق العمل الدرامي، ولا تحتاج إلى تبرير في النص؛ لأن الطفل المشاهد لن يهتم بوسيلة الاتصال، المهم عنده الاتصال نفسه هل حدث بين الأب وابنته أم لم يحدث؟! وفي ظني إن هذه السلبية – وغيرها كما سنرى – محاولة من الجابر إقناع نفسه بأن في أعماله سلبيات، كان يجب عليه أن يتجنبها؛ لذلك قرر جلد ذاته أمامنا، تطهيراً له من عواقبها!
والدليل على ذلك بقية سلبياته في مسرحية (سالي) كما ذكرها، ومنها سخريته من دخول خادمة المدرسة وبيدها جردل ومكنسة، قائلاً: "ما هذا المكان الراقي الذي مازال يتعامل بالمكنسة اليدوية رغم أن العصر عصر الطائرات، بل أن مكانس التنظيف (الهوفر) قد تم اختراعها بوقت سابق على اختراع الطائرات ذاتها!" ([10])، وقد نسى الجابر أنه صوّر صاحب المدرسة بالتاجر الجشع، وهذا يعني أن البُخل من طبيعته الجشعة من أجل التوفير! وهذا يُفسر استخدام الجردل والمكنسة اليدوية في التنظيف، بدلاً من المكنسة الكهربائية غالية الثمن!!
كذلك تعليقه على دخول الخادمة ونظرتها إلى طعام سالي بحسرة، قائلاً: "هنا مفارقة أخرى، فقد عرفنا صاحب المدرسة طماعاً لكننا لم نعرفه بخيلاً إلى هذه الدرجة، فهل يُعقل أن يمنع الطعام عن خادمة المدرسة الوحيدة ويجعلها تتحسر بهذه الصورة .. أية مدرسة راقية تعامل خدامها بهذا الشكل! لو انتبه المعد لتلك الهفوة .... لكفى نفسه وكفانا شر ذلك التناقض وتلك السخرية؟!! فمثل هذه الأخطاء التي تبدو صغيرة قد تؤدي إلى تشويه أو تمزيق النسيج الدرامي للعمل المسرحي ككل؟!" ([11]). وهذا الكلام فيه تضخيم لهذه السلبية، التي تُعد من وجهة نظري إيجابية جداً في سياق مضمون العمل! فصاحب المدرسة – كما وصفه الجابر – بخيل وجشع وتاجر، وهذا يعني أن الطعام الذي يقدمه إلى الخادمة، لابد أن يكون رديئاً رخيصاً لا يُشبعها؛ ولكن الجابر نسى أن الخادمة عندما نظرت إلى الطعام بحسرة، فإنها نظرت إلى طعام (سالي) ابنة الثري، أي أنها نظرت إلى طعام من نوع خاص لم تتذوقه من قبل، وبالتالي فإن نظرتها المتحسرة - مُبررة وموظفة بصورة جيدة - لهذا الطعام غير المألوف أو المعروف بالنسبة لها.
آخر سلبية للجابر في مسرحية سالي، جاءت في موقف اندماج الطالبات باللعب والرقص والغناء احتفالاً بسالي؛ ثم نفاجأ بدخول الناظرة المكان وهي متضايقة، مشيرة إلى الطالبات بالتوقف عن استكمال الاحتفال والطلب من كل واحدة منهن العودة إلى غرفتها، ثم تجلس وحيدة تخاطب نفسها: والله ما تستاهل هالبنت الطيبة يصير لها كل هذا!!، وهنا يُعلق الجابر قائلاً: " لا أدري لماذا أقحم المُعدّ هذه الإشارة على لسان الناظرة، رغم أن الأحداث القادمة ستعلن عنها. وهو (المُعدّ) بفعلته هذه كسر عنصر المفاجأة الذي سنتعرف عليه بعد قليل" ([12]).
وهذا القول من قبل الجابر، الذي يُعدّه نقداً ذاتياً من أجل جلد الذات، أعدّه أنا تشويقاً للأمر الذي سيتم كشفه فيما بعد. فالناظرة هنا تعلم شيئاً لم تُفصح عنه، وهذا الأمر سنتعرف عليه فيما بعد، وهو أن والد سالي الثري قد مات. والجابر هنا يعتقد بأن الناظرة أفشت هذا الأمر، أو كسرت عنصر المفاجأة، وأنا أعتقد بأنها زادت من تشويق الجمهور المتعاطف مع سالي السعيدة ابنة الثري، وبقول الناظرة (والله ما تستاهل هالبنت الطيبة يصير لها كل هذا)، جعلت الجمهور يتساءل: ما الذي يمكن أن يحدث لهذه الطالبة السعيدة ابنة الثري الكبير؟! أي أن ما عدّه الجابر سلبية، من الممكن النظر إليه بوصفه شيئاً إيجابياً. وهكذا لم يقنعنا الجابر بجميع سلبياته، التي رصدها في مسرحيته (سالي)، وهذه السلبيات أو الهنات لا تستحق منه أن يجلد ذاته، وأن يُطهر نفسه من عواقبها كما ذكر في مقدمة كتابه.
في مسرحية (علاء الدين 92) ([13])، ذكر الجابر سلبية واحدة تتعلق بالتأليف، قائلاً: "أمر مقنع أن يتحول العفريت من حالة إلى حالة معاكسة تناقضها تماماً بعد كل ما حدث له من نكسات، وكنت أتمنى أن يتوقف المؤلف عند هذه الخاتمة الرائعة، ليسدل الستار على العرض، لكن عقلية تركيب الذيل التي تسيطر غالباً على معظم المؤلفين مرت على مؤلفنا هنا – حتى لو غفرنا له هذا الخطأ كون هذا العمل هو الثاني له في سلم التأليف – المهم أن المؤلف أضاف ذيلاً يجعل الوزير والمنجم يتبعان العفريت ويطلبان منه التوقف للذهاب معهما، وحين يتساءل العفريت عما يريدان منه يجيبان سوية: نبي نروح المدرسة معاك. صحيح أن الذيل هنا قصير وسريع لكنه موجود، واعتراضنا عليه أنه لا يتناسب وسياق الشخوص، فالوزير والمنجم شخصان يؤمنان بدور السحر وأجواء الخرافة، كما أن شخصية الوزير شخصية ظالمة منافقة محتالة، وشخصية بمثل هذه الصفات يصعب عليها التغير في لحظة واحدة، والانقلاب من حالة إلى حالة معاكسة لها تماماً، فالتغيير هنا لم يكن منطقياً إطلاقاً بل جاء ساذجاً .. هشاً .. ضعيفاً" ([14]).
ورغم أننا نوافق الجابر في طرحه هذا، إلا أن هناك وجهة نظر مخالفة، تُبرر هذا الذيل – المرفوض من قبل الناقد - تتمثل في أن المسرحية تُقدم للأطفال، ومن غير المقبول أن تنتهي المسرحية وتظل الشخصيات الشريرة على شرها، فإما أن تنال عقابها أو تُغير من حالها إلى الأحسن، وهذا ما فعله المؤلف في هذا الذيل. هذا بالإضافة إلى أن التغيير الذي جاء بصورة غير منطقية، وجاء ساذجاً وهشاً وضعيفاً، فهذا الوصف لا يدركه الطفل، بل يدركه الشخص الكبير أو الناقد، وطالما المسرحية مُقدمة لجمهور الأطفال، فربما يكون التغيير غير المنطقي منطقياً عند الأطفال، والصورة الساذجة والهشة والضعيفة، ربما تكون لدى الطفل مقبولة ومتينة وقوية، تبعاً لإدراك الطفل في سن الطفولة.
وإذا نظرنا إلى سلبية الجابر في مسرحية (نعنوعة) ([15])، نجده يقول عنها: " في المشهد الذي يدخل فيه الحمار (حمّير) مندفعاً إلى المكان، يشير المؤلف إلى أنه يعاني من التعب بسبب (الصبيان) مردداً (ما يرحموني أبد .. في نهاري وليلي، وروّني كل التعب .. وطاح كل حيلي .. وإن قلت أنا بشتكي .. يا ويلي يا ويلي)، وهي إشارة ضمنية لتعبه دون أن نعرف بالضبط ما هو مصدر التعب وعدم الرحمة؟ هل يقوم الصبيان بضربه أم تحميله بالأثقال بشكل متواصل؟ هنا كان من الضروري على المؤلف الإشارة إلى مصدر التعب"([16]).
هذه السلبية مردود عليها؛ لأن المسرحية – كما حدد المؤلف – مُقدمة للأطفال من سن الخامسة إلى التاسعة، ومن العسير جداً أن نجد طفلاً في هذه السن لا يعرف عمل الحمار، وكيف يستخدمه الإنسان! بل ومن الصعب إيجاد طفل لا يتعرف على صورة الحمار وعمله، فكفى وجود هذه الصورة في الأفلام والأغاني، وما أكثرها في مخيلة الأطفال.
وكعهدنا بالجابر في رصده لسلبياته، نجده يجهد نفسه في اقتفاء أثر هذه السلبيات في مسرحيته (بونوكيو) ([17])، وهي سلبيات – ربما – لا توجد إلا في مخيلة الجابر نفسه، ومنها قول بونوكيو (ما أحب المدرسة .. ولا أحب أتعلم)، فيعلق الجابر قائلاً: "هنا يقع المُعدّ في خطأ غير منطقي فكيف تأتى لبونوكيو المصنوع من الخشب، والذي يُفترض فيه أنه جاء حديثاً إلى الحياة أن يعرف ماهية المدرسة؟! ووظيفتها" ([18]). وعندما يقول بونوكيو: (هذه الثياب مو حلوة! أبي ثياب لما ألبسها أصير محترم)، يعلق الجابر قائلاً: "إن جملة (أصير محترم) لا تتسق مع شخص مثل (بونوكيو) مازال طفلاً لا يعرف كثيراً من الأشياء الملموسة فما بالك بالأشياء المحسوسة مثل الاحترام" ([19]). وعندما يغني بونوكيو للأم، يُعلق الجابر قائلاً: "من أين يعرف بونوكيو الأراجوز الخشبي الساذج أن حب الأم بهذه الصورة .. وبهذه القيمة والسمو مادام لم يجربه" ([20]).
وهنا نسأل الجابر: أليس بونوكيو هو بطل المسرحية؟! أي إنه يحمل كل المعاني والمضامين التي يُريد الكاتب إيصالها إلى جمهور الأطفال، فما الفرق بين ظهور بونوكيو كأراجوز خشبي، أو ظهوره كطفل من دم ولحم؟! أليس المقصود هو إيصال الفكرة إلى جمهور الأطفال؟! والطفل يهوى استقبال المضامين والأفكار من العرائس والألعاب والشخصيات الكرتونية .. إلخ، فهل بونوكيو الخشبي يختلف عن هذه الوسائل المحببة إلى الأطفال؟! وهل الأسئلة التي طرحها الجابر، من الممكن أن يطرحها الطفل المتفرج؟! من الواضح أن الجابر يختلق سلبيات غير موجودة في العمل بالصورة الصارخة التي يحاول إيهامنا بها، أو أنه يُضخم من بعض الهفوات والهنات، ويجعلها سلبيات كبرى، لا حل لها إلا بجلد الذات!!
ومن هذا المنطلق تمثلت سلبيات الجابر – كما رصدها بنفسه – في مسرحيته (أليس في بلاد العجائب) ([21]) في بعض الجمل والعبارات، التي يتصور أنها فوق إدراك الطفل، مثل: (الجنون فنون، والظلام يطول، وفي حزني تقاسمني همومي، والجدران لها آذان) ([22]). وربما أتفق مع الجابر في اعتقاده هذا؛ ولكن من الممكن أيضاً أن أختلف معه، وأقول إن هذه العبارات ربما يفهمها الطفل، أو أن الطفل يستطيع تبين معناها في سياق العبارة الكاملة، ومن خلال حوار الشخصيات، وبهذا تكون هذه العبارات - عالية الفهم عند الطفل - أسلوباً تعليمياً لتنشيط قدرته على فهم دلالات الكلمات والعبارات! أي أن السلبية هنا تُصبح إيجابية. ولو قام الجابر – أو أي باحث آخر – بتوزيع استبيانات على جمهور الأطفال أثناء العرض، ووضع ضمن أسئلة الاستبيان مدى معرفة الطفل بهذه الجُمل أو العبارات، ربما كان سيُدهش من النتائج! وهذا الأمر تكرر أيضاً في سلبيات مسرحية (كونان في أرض البوكيمون) ([23])، عندما علق الجابر على عبارة وردت في النص هكذا (هل تصدقون يا أصحابي هذا الهراء؟!)، فقال الجابر معلقاً: " إن مفردة (الهراء) قد تكون غير مفهومة لجمهور الأطفال؟" ([24]).
هذه هي أغلب سلبيات علاء الجابر ([25])، بوصفه مُؤلفاً ومُعدّاً مسرحياً، وهي سلبيات كما لاحظنا لم تكن سلبيات كبيرة، بل كانت هنات طفيفة، لا يلحظها أغلب النقاد أو القُراء أو الجمهور من الأطفال – وربما تكون أغلب هذه السلبيات إيجابيات من وجهة نظر أخرى، لم يطرحها الجابر - وكأن الجابر كناقد مسرحي، تعمد استخراجها وتضخيمها؛ حتى يقنعنا بأنه نقد ذاته أو جلدها، ووضع أعماله تحت مقصلة النقد الذاتي، وهذه النتيجة تتعارض مع قول الجابر في مقدمة كتابه: " كل ما أرجوه أن أكون قد وفقت في عملي هذا، كطرف محايد اقتص لنفسه من نفسه، وواجهها دون محاباة أو مجاملة" ([26]).
إيجابيات الجابر:
ذكرنا فيما سبق إن علاء الجابر، قد حدد منهجه في النقد الذاتي، عندما قال في مقدمة كتابه: سأضع "العمل المسرحي في ميزان النقد وأكيل سيئاته وحسناته – إن كانت له حسنات – مركزاً على نقد النص والعرض"، وعلقنا على ذلك أنه سيتوقف كثيراً عند السيئات لكثرتها، وربما سيمسُّ حسناته مسّاً خفيفاً لقلتها، أو لعدم وجودها!! وعندما تعرضنا إلى السلبيات، لاحظنا عدم وجودها بالصورة المتضخمة التي أشار إليها في منهجه هذا!! فهل سنجد لأعماله هذه بعض الحسنات، التي أشار إليها بأنها قليلة، وربما لا توجد!! سنرى ..!!
في مسرحية (سالي)، كان علاء الجابر: المُعدّ، ومؤلف الأغاني، ومُصمم الأزياء، وأحد المنتجين. ومن إيجابياته في الإعداد قوله: "استعنت بحكاية النص الأصلي بالطبع ولكنني أجريت عليها بعض التعديلات كي تتناسب وطبيعة المسرح حيث تم تحويل المادة السردية إلى أخرى درامية، فحذفت بعض الشخصيات وأضفت شخصيات أخرى، كما اختصرت وألغيت بعض أجزاء الحكاية، وأبدلت في نمط سلوك بعض الشخصيات لتوائم القيم السلوكية التي ننشد الوصول إليها من خلال مسرح الطفل" ([27]).
ومن أمثلة ذلك قيامه بتحويل الناظرة الشريرة في أصل القصة البريطانية إلى النقيض، إيماناً منه بالدور التربوي، حيث جعلها "إنسانة تربوية حنونة طيبة لا تنساق وراء المصلحة المادية ولا تفرق بين الطالبات، وهذا هو النمط الذي ننشده في منطقتنا العربية" ([28]). كما جعل (سالي) تنقل لجمهور الأطفال "صورة رائعة لأسلوب التعامل الراقي بين الأصدقاء"([29])، كما جعلها أيضاً "لا تتوانى عن إيصال رسالة مهمة لجمهور الأطفال ضمنياً حول أهمية النظافة دون أن تطرح الأمر بخطابية أو بشكل مباشر" ([30]). وأخيراً عالج المُعدّ سلوكاً مرفوضاً عند الأطفال، وهو البكاء عندما يقعون في مشكلة، وذلك من خلال (سالي) في تأكيد " أن البكاء لا يحل المشاكل ولابد للإنسان أن يحاول التغلب على مشاكله بطرق أخرى ..... ويؤكد المعد [كذلك] على قيمة الوفاء وأن من يزرع الخير يحصده أيضاً خلافاً للمثل السائد (اتق شر من أحسنت إليه)؛ بل يُطبق (المُعدّ) مثله الخاص به (انتظر خيراً ممن أحسنت إليه)" ([31]). وهذا يعني أن الجابر نجح في إعداد هذه المسرحية، بدليل هذه الإيجابيات في عنصر الإعداد فقط!
أما إيجابيات الجابر في هذه المسرحية، بوصفه مؤلفاً لأغانيها، فقد تمثلت في: أغنية (A.B.C.D)، التي "جاءت منسجمة مع الأحداث وجزءاً منها، كما شكلت رسالة لتعليم بعض المفردات الإنجليزية لجمهور الأطفال بشكل غير مباشر" ([32]). وعندما يطلب مدرس اللغة الإنجليزية من سالي ذكر أيام الأسبوع، "يلتقط (المعد/مؤلف الأغاني) الخيط ويحول جوابها إلى أغنية خليط بين العربي والإنجليزي مستفيداً من التراث الفلكلوري الكويتي" ([33]). وأخيراً نجد كلمات أغنية سالي عندما تتذكر والدها، متكورة من البرد، قد "جمع فيها المؤلف بين الشعور بالبرد وبين الشعور بفقد الوالد حيث الدفء والحنان" ([34]). وبناءً على هذه المعاني، نقرّ بأن الجابر نجح في هذه المسرحية بوصفه مؤلفاً للأغاني.
لم يبق من إيجابيات الجابر – في هذه المسرحية – إلا النظر إليه بوصفه مُصمماً لأزيائها، حيث اختار " اللون الأزرق الفاتح مطعماً بالأبيض لوناً لملابس الطالبات، وبدا واضحاً أن اختيار تلك اللونيات جاء مناسباً للأنوثة الطاغية على مدرسة داخلية للبنات فقط"([35])، كما وفق في اختيار ألوان ملابس (سالم) فهي "خليط بين الأسود والبني والرصاصي، وكلها ألوان ثقيلة، كئيبة، تلقي مزيداً من الغموض على شخصها، وهو غموض يتواءم مع شخصية (سالم) المنافقة المتلونة. أما الناظرة، فقد عكس لون فستانها المخملي الأرجواني المستوى الاجتماعي الذي تنحدر منه، وهو بالضرورة مستوى عالٍ يتلاءم مع وظيفة محترمة في مدرسة راقية" ([36])، وأخيراً نجد الجابر يتحدث عن مدرس اللغة الإنجليزية قائلاً : "وبدا كشخصية متفتحة ذكية عكست أزياؤها – التي تشكلت بين الأخضر والأصفر – روحها المرحة" ([37]).
وهكذا نجد الجابر يُحصي إيجابيات عمله في مسرحية (سالي) .. مُعدّاً، ومؤلفاً للأغاني، ومُصمماً لأزيائها بصورة دقيقة، تؤكد أن عمله كان ناجحاً بكل المقاييس! ولا مجال للمقارنة بين سلبيات الجابر الطفيفة، وبين إيجابياته الملموسة كماً وكيفاً! وهنا يطرح السؤال نفسه: هل النقد الذاتي لمسرحية (سالي)، كان هدفه جلد الذات عن طريق مسّ سلبيات لا تُذكر، أم لتأكيد إيجابيات الجابر الملموسة في هذه المسرحية؟!
وإذا انتقلنا إلى مسرحية (علاء الدين 92)، سنجد الجابر ينظر إليها بوصفها أقلّ أعماله الإبداعية قيمة لأسباب خارجة عن إرادته – سنتحدث عنها لاحقاً – ورغم ذلك نجده يتحدث عن نجاحه فيها كمؤلف، قائلاً: "يدور النص الدرامي في مستويين يلعب فيهما الزمان دوراً كبيراً في صياغة الفضاء المكاني للعرض، وينقسم بين زمنين: زمن الخطاب الحالي حيث يقع الفعل الدرامي فيه في الحاضر (الزمن الفعلي)، وزمن يقع في الماضي (الزمن التخيلي)، وتتولد الأحداث الدرامية من تواتر هذين الزمنين .. إلخ" ([38]). كما أشاد بعمله في صياغة حوار هذه المسرحية، الذي أكدّ فيه على "عدم الاعتراف بقدرات السحر وضعف حيلته أمام إنجازات العقل البشري الجبار ..... إننا أمام إعجاز بشري يتضاءل فيه السحر ويصبح بلا حول ولا قوة، وهذا ما أراد العمل أن يوصله للأطفال" ([39]). كذلك أشاد الجابر – بوصفه مؤلفاً لأغاني المسرحية – بأغنية المكتبة " التي جاءت كلماتها منسجمة تماماً مع الهدف الذي أراده المؤلف في الدعوة إلى القراءة وحب الكتب" ([40]).
وبالأسلوب نفسه يُشيد الجابر بإيجابياته في مسرحية (نعنوعة)، التي قدمت " عدداً من الرسائل غير المباشرة للأطفال، منها: الاستماع، والإنصات للآخر، ومساعدة المحتاج، وعدم الاستهزاء به، ومحاولة إصلاح عيوبه دون الإشارة إليها، وعدم السخرية من عيوب الآخرين، وتقديم قيمة حب الوطن دون مباشرة أو خطابية". كما أبان الجابر عند معالجته لفكرة الصداقة من أجل إيصال "رسالة إلى الأطفال تدعو إلى اعتبار الصداقة علاقة فيها مصلحة الطرفين لا مصلحتنا نحن دون الآخر"، كما أنه " لم يطرح مفهوم الصداقة بالإجبار بل بالرغبة المشتركة ..... فالصداقة أمر اختياري لا يتأتى بالفرض أو الإجبار بل بالتوافق والاختيار". هذا بالإضافة إلى مشهده الإنساني "المكتوب بعناية وبطريقة غير مباشرة تُظهر مدى حب الآباء لأطفالهم وتضحيتهم من أجلهم". ولم ينس الجابر الإشادة بأغانيه، لا سيما أغنية (يا سلام يا سلام) – في مسرحية بونوكيو - فهي " أغنية جاءت معبرة عن الحدث بشكل دقيق" ([41]).
وبهذا المنهج في تناول الإيجابيات، يستمر الجابر في رصد إيجابياته: كمؤلف، ومُعدّ، ومؤلف للأغاني، ومُصمم للأزياء، وكمشارك في الإنتاج لأغلب مسرحياته التي جاءت في كتابه (مسرحياتي كما أراها الآن)! وهذه الإيجابيات فاقت السلبيات التي اجتهد في إقناعنا بوجودها! وهذا يعني أنه لم يقصد محاسبة ذاته على سلبياته، بل الإشادة بإيجابياته في هذه المسرحيات! ولكن هذه النتيجة تتعارض كلية مع طبيعة الجابر الفنية والنقدية والإنسانية، فهو إنسان مثال التواضع والأخلاق الحميدة، وناقد حُرّ نقي القلم، لا يحب الاستعراض، أو الظهور، أو الشهرة! بل أنني تعجبت من ظهور إنتاجه المسرحي هذا، عندما خرج في كتاب، حيث إنني لم أكن أتصور أن إنتاجه المسرحي بهذا الكم الكبير، والكيف الرصين، والمضمون الهادف! إذن هناك سبب آخر دفعه إلى نقد أعماله المسرحية ذاتياً! ومن المؤكد أن هذا السبب، يستحق من الجابر وضع أعماله المسرحية تحت رحمة أو عقاب مقصلة النقد الذاتي!!
الجابر .. المُتهم البريء
السبب الحقيقي – من وجهة نظري – الذي دفع الجابر لكتابة كتابه (مسرحياتي كما أراها الآن)، والذي جعله يقتحم مجال النقد الذاتي، ويضع أعماله المسرحية في أتون نار النقد الذاتي، ومحاسبتها حساباً عسيراً، هو حصوله على حُكم البراءة لنصوص مسرحياته من جميع التُهم، التي من الممكن أن توجه إليها، أو لكاتبها علاء الجابر!! وبمعنى أوضح: أن علاء الجابر أراد من وراء كتابه هذا، أن يدفع عن أعماله المسرحية أية تُهمة من الممكن أن تكون وُجهت إليها، أو من الممكن أن تُوجه إليها مستقبلاً!!
والسؤال الآن: ما هي التُهم، التي وجهها النُقاد إلى هذه الأعمال؟! وما هي التُهم التي من الممكن أن تُوجه إلى هذه الأعمال مستقبلاً؟! الإجابة تتمثل في جملة واحدة: (لا تُوجد أية تُهم)!! وبناءً على ذلك نتساءل: لماذا بادر الجابر بالدفاع عن أعماله، ضد تهمٍ لم توجه إليها، ولن توجه إليها؟! الإجابة تتمثل في الآتي: إن علاء الجابر ناقد مسرحي قبل أن يكون مبدعاً مسرحياً، ولهذا السبب أراد أن يقوم بعمله كناقد مسرحي بالنسبة لنصوصه، وعروضها على خشبة المسرح! فمن غير المعقول أن ينقد الجابر أعمال الغير، ولا ينقد أعماله هو! وعندما نظر فيما حوله لم يجد تجربة مماثلة، فأراد أن يقتحم مجالاً نقدياً جديداً بجرأة شديدة، وما أكثر جرأة الجابر، وما أكثر اقتحامه المخاطر في حياته الفنية!
نصل هنا إلى نقطة خطيرة! فالجابر عندما نظر إلى أعماله نظرة الناقد – كما عُرضت على خشبة المسرح - وجد بها خروقات كثيرة، وسلبيات أكثر، وعندما دقق النظر في هذه الأمور، لم يجد لها أسباباً تخصه، بل أن أغلب تبعاتها تقع على عاتق الآخرين! وعندما تفحص هذه التبعات بعين الناقد الفني، وجد أن من اليسير على أي ناقد آخر - أو مشاهد عادي لأعماله - أن يلصقها به، ويوجه إليه سهام النقد والتجريح – بوصفه كاتب النصوص، أي واضح الأساس - لذلك بادر بنقد هذه الأعمال ذاتياً، حتى يُشير بأصابع الاتهام إلى أصحابها الحقيقيين، ويدفع عن نفسه أية تُهمة من الممكن أن تُوجه إليه، أو إلى دوره في هذه الأعمال؛ ولهذا السبب أطلق الجابر على كتابه عنوان (مسرحياتي كما أراها الآن)، ولم يقل: (نصوص مسرحياتي كما أراها الآن)!!
وبناءً على ما سبق، أستطيع أن أقول: إن مسرحية (علاء الدين 92)، كانت السبب المباشر، الذي دفع الجابر لنقد أعماله ذاتياً؛ بسبب ما قام به الآخرون من تشويه للنص! يقول الجابر: " من يقرأ النص الدرامي لعلاء الدين 92، ثم يشاهد العرض المسرحي الذي قُدّم في 3/4/1992، وعُرض 48 عرضاً، سيشعر دون جهد بأن هناك فرقاً كبيراً بينهما، لا يتعلق الأمر هنا بفروقات في المضمون، ولا بالتفسير فقط، لكن الأمر تجاوزه إلى شيء آخر في غاية الأهمية، يتجلى في تحميل النص أفكاراً ورؤى تتعارض تماماً مع توجهات مؤلف النص وتشوهها" ([42]).
وتجاوزات الآخرين – المُشار إليها – تمثلت في ظهور المطرب (عادل الرويشد) – في أغنيتي الافتتاح والختام – بوصفه مُطرباً يُمثل شخصيته الغنائية، وذاته الفنية، لا بوصفه عُنصراً في النسيج الدرامي! وكان ظهوره بملابس كويتية معاصرة، رغم أن الاستعراضيين من حوله يرتدون الملابس التراثية المناسبة لموضوع المسرحية، وهذا أمر مرفوض وأتفق فيه مع الجابر! كذلك قام المخرج بتصميم الرقصات بصورة أوروبية حديثة، لا علاقة لها بزمن النص!! ويُعلق الجابر بوصفه ناقداً - على ذلك – قائلاً: " نحن هنا أمام ضبابية في الرؤى والمنهج والتنفيذ " ([43]). ولم تتوقف خروقات المخرج عند هذا الحد، بل تجاوزه إلى إضافة مشهد لا نصّ له، ووضع شخصيات لا وجود فعلي لها على خشبة المسرح ([44])! وهذه كلها أمور أصابت النص في مقتل، مما دفع الجابر للثورة على معاونيه في العملية المسرحية، وهي ثورة مشروعة حفاظاً على قيم مسرح الطفل وقواعده!
أما الفنان (داوود حسين)، فكان سبباً مباشراً في عدم إيصال أغلب أفكار المؤلف وأهدافه التربوية إلى جمهور الأطفال! حيث إنه تلاعب بالنص والعرض منذ أن وطأت قدماه خشبة المسرح! كذلك حديثه المباشر مع جمهور الأطفال في الصالة، مما أدى إلى كسر الإيهام المسرحي، ناهيك عن تعليقاته المستمرة – طوال العرض – وهي " تعليقات لا تتفق ولا تتسق مع أساليب التربية والقيم السلوكية الذي نريدها للأطفال" ([45])، ونحن نشد على يد الجابر في هذا الأمر، ونحثه على عدم التهاون مع زملائه في هذا الخصوص.
وبمرارة شديدة، وتحت عنوان (أشعر بالخجل من هذا المشهد)، يروي الجابر ما قام به الآخرون، من إفساد لبعض أهدافه التربوية والفنية في هذه المسرحية، حيث قام المخرج أو الممثل – أو كلاهما – بإضافة مشهد غير موجود في النص، تمّ فيه إقحام الوضع السياسي السائد في تلك الفترة – بعد غزو العراق للكويت من حيث الاستهزاء من بعض الجنسيات العربية - فجاء على حساب المضمون، ومخالفاً للقيم السلوكية الأخلاقية، التي نحاول بثها في نفوس أطفالنا. ويعلق الجابر على هذا المشهد قائلاً: "إنني – ولغاية هذا اليوم ورغم مرور أكثر من (12) عاماً على عرض المسرحية – أجدني أشعر بالخجل والألم من هذا المشهد، وأتمنى – لو كان الأمر باستطاعتي – لمحوته من كل أشرطة الفيديو الموجود عليها، فهو يسيء للعمل ولي، حيث يعتقد من يشاهد العمل أنه من تأليفي مع أنني لم أكتب منه حرفاً واحداً" ([46]).
وهذه المرارة المبررة للجابر، تُقابلها نظرة أخرى مُضادة – رغم كونها تجارية بحتة، وتُعد نوعاً من الصيد في الماء العكر - تقول: إن من حق المُنتج، أو المُخرج، أو الممثل، أو جميعهم استغلال بعض الظروف والأحداث؛ جذباً للجماهير، واستدراراً لعواطفهم، لا سيما في مسرح (القطاع الخاص) أي (المسرح التجاري)! ومسرح الطفل في الكويت – للأسف الشديد – لا يُقدم إلا من خلال هذا القطاع التجاري!!
من الواضح أن الفنان (داوود حسين) أصاب الجابر في مقتل، بسبب نجوميته الطاغية، التي منحته حق التلاعب بنص مسرحية (علاء الدين 92) – كما مرّ بنا – فأراد الجابر الاستفادة من هذه التجربة القاسية، فقرّر كتابة مسرحيته التالية (نعنوعة) بصورة غنائية كاملة، حتى يجبر الممثل على الالتزام بالنص، مهما كانت نجوميته ([47])، ولكن هيهات!! فالممثل (هاني مطر) في نعنوعة غيّر كلمة واحدة فقط - فكانت القشة التي قصمت ظهر البعير - فعلق الجابر على ذلك بكلمات غاضبة ثائرة – وكأن الممثل ارتكب جريمة لا تُغتفر - قال فيها: " ومن خلال هذا الخطأ يتضح لنا ما نشير له دائماً ويغيظنا أحياناً، والذي يتمثل بتدخل الممثل في النص الدرامي، خاصة في النص الموجه للأطفال، حيث غالباً ما يرتجل بعض الممثلين كلمة أو جملة دون أن يعوا وظيفتها أو تأثيرها على العمل!!" ([48]).
والملاحظ أن تعليق الجابر – شديد اللهجة - على تصرف الممثل لا يتناسب مع عمله في تغيير كلمة واحدة فقط! وهذه الكلمة هي (حجيّة)، وهي كلمة عامية كويتية، تعني المرأة التي أدت فريضة الحج! وسبب غضب الجابر عدم اقتناعة بأن (البطة) يُمكن أن نطلق عليها (حجية)؛ لأن "عملية شخصنة الحيوانات عملية درامية لا تعني أنسنة الشخوص الحيوانية"([49]). وهذا الرأي أتفق فيه مع الجابر تماماً؛ ولكن اعتراضي على أسلوب نقده في رفضه لأنسنة البطة، الذي جاء قاسياً ثائراً ضد الممثل – بصورة مبالغة - خصوصاً وأن هذا الفعل لا يُعدّ شيئاً أمام ما قام به داوود حسين من قبل! ومن ينظر إلى موقف الجابر من هذين الممثليّن، سيظن أن الجابر أراد عقاب داوود حسين في صورة هاني مطر! وهذا العقاب جاء من حيث الكيف لا من حيث الكم! فهاني مطر نال سطراً واحداً من الجابر كان أقوى تأثيراً، من الصفحات التي نالها داوود حسين!!
وفي المجمل، نستطيع تحديد خروقات الآخرين في مسرحية (نعنوعة)، بعدم التزام الممثل (جاسم عباس) بالنص حواراً، وبالعرض أداءً! وعدم توجيه المخرج للممثلين بصورة تؤكد أهداف المشاهد التربوية كما أرادها الكاتب، وعدم إدراكه لبعض بؤر المشاهد من الناحية البصرية، مما أدى إلى تشتيت انتباه جمهور الأطفال، ناهيك عن عدم اهتمام الممثلين بدقة حركاتهم، وعدم توظيف الإضاءة مما أدى إلى عدم وضوح بعض المشاهد بالصورة التي توخاها الكاتب ([50]). وهذه الخروقات كان الجابر مُحقاً فيها جميعاً.
وفي مسرحية (بونوكيو)، أحال الجابر تشويه عمله وأهدافه الفنية والتربوية – الموجودة في النص - إلى المخرج والممثلين. فبالنسبة للمخرج عاب عليه تلاعبه بالنص، وناقش في نقده قضية مدى أحقية المخرج في تغيير نص المؤلف أو التلاعب به! ومدى تأثير هذا التلاعب على الأهداف التربوية والفنية التي أراد المؤلف إظهارها في نصه ([51])؟! والغريب أن الجابر كناقد لم يمسّ – في هذا المقام - قاعدة النص الموازي للنص المكتوب، أي رؤية المخرج للنص! خصوصاً ونحن نتعامل مع (المسرح التجاري)، أي أن هدف العرض أولاً وأخيراً هو (كسب المال)، ثم تأتي بعد ذلك قيمة الأهداف التربوية!! والأغرب أن الجابر لم يُفسر أسباب حدوث هذه الخروقات، ولم يُحدد توقيت حدوثها! بمعنى: هل حدثت في البروفات؟! وهذا يعني أنه وافق عليها قبل عرضها! أم حدثت فجأة في العرض؟! وماذا كان موقفه؟! هل صمت؟! ولماذا؟ ... إلخ
وبالعودة إلى ما نحن بصدده، نجد الجابر بدأ يتتبع أخطاء المخرج، وعدم التزامه بأفكار النص وأهدافه، قائلاً: "لكن المخرج يُلقي ذلك الافتراض في سلة مهملاته التي ستمتلأ بالأخطاء فيما بعد" ([52])، دليلاً على أن الإخراج كان السبب الأكبر في ضياع أفكار النص؛ كما أرادها الجابر. ومثال على ذلك كذبة بونوكيو الأولى، التي من نتيجتها أن يطول أنفه – كما جاء في النص – يُبدلها المخرج بشيء آخر، فيعلق الجابر على ذلك – بكلمات قاسية - قائلاً: " وبالتالي فإن العظة التي حاولت الحكاية إيصالها والمتمثلة بأن من يكذب يُعاقب تمّ سحقها من قبل مخرج لا يعي قيمة أدواته، ولا يعرف حدود المساحة بين ما يجب عليه الالتزام به وما يمكن التصرف به بحرية " ([53]). وعندما قام المخرج باستبدال أشخاص بآخرين – مخالفاً بذلك النص – علق الجابر قائلاً: "لكن المخرج يرتأى – وما أكثر رؤاه الخاطئة " ([54])، ومنها أن جعل أم بونوكيو أصغر سناً من ابنها، دون استخدام المكياج! واستبدل شخصية الطبيب كقدوة لبونوكيو – كما جاءت في النص – بفنان ظهر كقدوة سيئة لبونوكيو وللأطفال، فعلق الجابر قائلاً: " ما ضايقني كم السخرية والميوعة والهزء والتلاعب بالألفاظ الذي أظهره الفنان .... وهل يمكن أن تكون مثل هذه الشخصية قدوة لبونوكيو ولجمهور الأطفال؟!" ([55]).
وأهم خرق قام به المخرج – من وجهة نظر الجابر - استغلاله للوضع السياسي، كما حدث من قبل في مسرحية (علاء الدين 92)، وهو أزمة الأسرى بعد غزو العراق للكويت! فتحت عنوان (مزايدة وطنية)، أوضح الجابر أن في مشهد السيرك، قام الساحر بإخراج علم خاص بالأسرى الكويتيين، وعلق على ذلك قائلاً: "لا أجد أي تفسير درامي لهذا الفعل في نص يُفترض أنه إيطالي، ويُمثل حقبة تاريخية قديمة، أي أن النص ليس له علاقة بأحداثنا ومنطقتنا .... فما الداعي إلى المزايدة الوطنية وإقحام علم الأسرى على العرض!!" ([56]). وهذا الأمر إن كنا نتفق مع الجابر في عدم قبوله فنياً ودرامياً، إلا أن الرأي المخالف، الذي أوضحناه في الحادثة المشابهة السابقة في مسرحية (علاء الدين 92)، هو الذي يفرض نفسه على هذا الوضع؛ طالما أننا نتعامل مع المسرح التجاري!!
أما خروقات الممثلين في هذه المسرحية، فتمثلت في تغيير أحد الممثلين مطلع أغنية مكتوبة بالفصحى، إلى مطلع آخر بالعامية اللبنانية، مما أحدث لبساً عند جمهور الأطفال ([57]). كما قام ممثل آخر بكسر الإيهام المسرحي؛ فخالف بذلك قاعدة " إبقاء الطفل كعنصر مستقل للأحداث لا مشارك فيها" ([58]). وأشار الجابر إلى دور الممثل (طاهر النجادة) – النجار والد بونوكيو – وأسلوبه التمثيلي، الذي شوه صورة الأب أمام ابنه، قائلاً: إن " سمة الصراخ الدائم التي انتهجها الممثل الذي أدى دور النجار (طاهر النجادة) وهو يخاطب (بونوكيو) مع ما في هذا التوجه من تشويه لشخصية الأب التي يجب أن تكون قدوة للأطفال لا مصدراً لاستهزائهم وسخريتهم، فإذا كان الأب يظهر على المسرح بهذه الصورة المهزوزة فكيف نطلب من الطفل أن يجلّه ويحترمه في الواقع؟! والطفل ... شخصية من سماتها التقليد والمحاكاة وهنا منبع الخطورة التي لا يدركها إلا الممثل الواعي" ([59]). وأخيراً يُعيب الجابر على الممثل (مبارك سلطان) قلبه قيمة رفض التسول – كما جاءت في النص – إلى " قيمة عكسية تشجع على هذا السلوك السيء وتدعو له" ([60]).
هذه بعض نماذج من تصرفات المخرجين والممثلين ممن وقفوا حائلاً دون إيصال بعض أهداف الجابر الفنية والتربوية إلى الجمهور، وأدت إلى عدم الاتساق بين النص الرصين، وبين العرض المشوه لبعض أفكار النص وأهدافه! والحق يُقال فإن الجابر كان مُحقاً في أغلب إداناته للمخرجين والمنتجين والممثلين ممن شوهوا نصوصه، أو تقاعسوا عن إيصال أهدافه التربوية بالصورة الرصينة السليمة كما جاءت في النصوص. وهكذا أبان الجابر أغلب التُهم التي من الممكن أن توجه إلى نصه البريء، ووجهها إلى الآخرين ممن تقاعسوا تارة، وتعمدوا تارة أخرى إلى عدم إيصال بعض أفكاره – المنصوص عليها - إلى جمهوره من الأطفال! وهذا – كما بيّنا سابقاً – السبب المباشر لخوض الجابر تجربة النقد الذاتي! وهذا يعني أن هناك أسباباً أخرى غير مباشرة – ربما تكون – معينة لسببه المباشر، أو تكون أسباباً إضافية دفعته لكتابة كتابه (مسرحياتي كما أراها الآن).
قواعد مسرح الطفل
من المُحتمل أن أول سبب غير مباشر في نقد الجابر لأعماله ذاتياً، ووضعها تحت مقصلة النقد، هو ترسيخ بعض قواعد مسرح الطفل، التي يراها الجابر مهمته الفنية والإنسانية! وقد أشار إلى ذلك في مقدمة كتابه، قائلاً : " كان هدفي من هذه المغامرة تشريح تلك الأعمال نقدياً وكشف عيوبها وعرضها على العاملين في هذا المجال والمهتمين به، لربما استفادوا من تلك الأخطاء وتلافوها" ([61]).
أول قاعدة أراد الجابر ترسيخها، عدم خروج الممثل عن النص المكتوب في مسرح الطفل، وقد استغل الجابر موقف الممثل داوود حسين في خروجه عن نص مسرحية (علاء الدين 92)، ليدلي بدلوه في إثبات هذه القاعدة الفنية المهمة، قائلاً: " إننا متأكدون ومتفقون على نجومية داوود حسين وقدرته الكبيرة على اصطناع الضحكات من خلال خروجه الدائم عن النص، لكننا كمربين ونقاد وأولياء أمور لا نوافق إطلاقاً على طبيعة ونهج هذا الأسلوب، الذي لا يتوافق إطلاقاً مع القيم التي نحرص على زرعها في عقول ونفوس أطفالنا، وما يزيد خوفنا أكثر يقيننا (بحكم متابعتنا للساحة عن كثب) إن ما يلقيه داوود من تعليقات وسخرية بالآخرين تصبح – حالما يخرج جمهور الأطفال من صالة المسرح – جزءاً من مفرداتهم، وما يقوم به من حركات تتحول مجسدة إلى أجسامهم!! أليس هو نجم الأطفال المحبوب وقدوتهم!! لذلك يجب علينا أن لا نتعجب إطلاقاً ولا نتساءل: من أين لأطفالنا كل هذا الكم من السخرية والاستهزاء بالآخرين، فالأمر لا يحتاج لأكثر من أن نتابع البعض من نجوم مسرح الطفل لدينا وبعدها سنعرف الإجابة؟!" ([62]).
القاعدة الثانية، كانت في مسرحية (نعنوعة)، عندما أكدّ الجابر على ضرورة تقديم المسرحيات بصورة غنائية للأطفال من سن الخامسة إلى التاسعة، لأن طبيعة هذه السن "تُصاب بالملل السريع أو عدم القدرة على التركيز حينما تتابع حواراً غير غنائي" ([63]). والقاعدة الثالثة، جاءت من خلال نقد الجابر لمسرحيته (بونوكيو)، والمتمثلة في وجوب استبعاد أي تعارض مع الدين والقيم الأخلاقية، في القصص الغربية عند إعدادها لمسرح الطفل، وهذا ما قام به الجابر في إعداد مسرحية (بونوكيو) عن القصة الإيطالية ([64]).
والقاعدة الرابعة جاءت أيضاً من خلال مسرحية (بونوكيو)، وتمثلت في تأكيد الجابر على عدم مخاطبة الممثلين لجمهور الأطفال، وعدّ الجابر هذا الفعل بمثابة الخطر المدمر لأطفالنا، قائلاً تحت عنوان (أمر في غاية الخطورة): "إن مخاطبة الجمهور من الأطفال أمر في غاية الخطورة، قد يجرّ إلى ما لا يُحمد عقباه، ويأتي بمفاجآت قد تكسر إيقاع العمل أو تفتته، كما قد يؤدي – في أحيان كثيرة – إلى تبقيع العمل بعدد من المفردات البذيئة التي قد تصدر عن بعض أطفال الصالة مما يأتي بنتائج عكسية سيئة، وإضافة لكل هذا، فإن هذا التخاطب يساهم في كسر الإيهام، وهو أمر له أهميته وضرورته في مسرح الطفل، ولذلك كنت – ولا أزال – أحد الرافضين وبشدة لمبدأ التخاطب أو الحوار بين الممثل والصالة في عروض مسرح الطفل"([65]).
القاعدة الخامسة، تمثلت في دعوة الجابر كُتاب مسرح الطفل إلى استخدام العربية الفصحى في كتاباتهم، وحاول طمأنتهم بجدواها – رغم تخوف أغلبهم من استخدامها – قائلاً عن مسرحيته (كونان في أرض البوكيمون)، المكتوبة بالفصحى: " حققت هذه المسرحية نجاحاً كبيراً حيث بلغ عدد عروضها أكثر من (80) عرضاً متواصلاً" ([66]). والقاعدة الأخيرة، جاءت أيضاً من خلال هذه المسرحية، وتمثلت في رفض الجابر قيام المخرج بأي دور تمثيلي في العرض نفسه؛ لأن " انشغال المخرج بأداء دوره ضمن فريق العمل يفقده كثيراً من أدواته الإخراجية، وخاصة فيما يتعلق بالتكوينات الحركية للمجاميع، ويفتت في أحيان كثيرة البُعد الجمالي لسينوغرافيا العرض" ([67]).
وبناءً على ما سبق يتضح لنا أن ترسيخ قواعد مسرح الطفل، كان أحد الأسباب غير المباشرة، التي دفعت الجابر لنقد أعماله ذاتياً، وكان الجابر ذكياً في هذا الأمر؛ حيث إنه لم ينقد دوره فقط، بل نقد دور الآخرين، مستغلاً هفواتهم وأخطاءهم ليستمد منها معطيات، استطاع أن يبني عليها نقده الذاتي؛ وكأنه ينقد أعماله، وهو في الحقيقة ينقد دور الآخرين، أو يجلد الآخرين في صورة جلد لذاته!!
الجابر .. الناقد الفني
السبب الثاني – غير المباشر – لقيام الجابر بخوض تجربة النقد الذاتي، هو قيامه بدور الناقد الفني، والاستمتاع بدوره الحقيقي في الحياة الفنية قبل أن يكون مُبدعاً؛ ولكن أي نقد نقصده؟! أليس كل ما سبق يُعدّ نقداً فنياً؟! الحقيقة أن ما سبق يدخل ضمن النقد الذاتي – من وجهة نظر الجابر، بوصفه الرائد في هذا المجال – ولكن النقد الفني الجمالي، لم نتعرف عليه فيما سبق! والمقصود بالنقد الجمالي؛ أي مواطن القوة والجمال في العرض المسرحي، وهو أمر لم نجده فيما سبق! وفي ظني إن ما دفع الجابر إلى قيامه بهذا الدور المختلف عن منهجه في النقد الذاتي، هو رغبته في إظهار مواطن قوة العرض المسرحي، وجمالياته، وهي مواطن لم يفطن إليها النقاد، وربما سجلها الجابر بقلمه؛ لأنه يرغب في تدوينها، وربما كان يتمنى أن يقرأها بأقلام آخرين!! وطالما لم يقترب أي ناقد من هذه الجماليات، فلا مانع من كتابتها بيد صاحبها! فإذا كان الجابر قاسياً في نقده على الآخرين من خلال العروض – وعلى نفسه أيضاً في بعض الأحيان من خلال النصوص – فما الضرر بأن يكون رحيماً في نقده لعروض بعض جماليات أعماله؟! فإذا كان الآخرون حالوا دون وصول بعض أهدافه الفنية والتربوية إلى جمهوره، فمن المؤكد أنهم نجحوا في إيصال البعض الآخر! وطالما سجل الجابر سلبياتهم، فما الضرر من تسجيل إيجابياتهم؟! وبهذا المنطق يحقق الجابر - بذكاء – (نقده الذاتي، ونقده الفني) في آن واحد!! واللافت للنظر أن علاء الجابر، عندما قام بدوره كناقد فني، رصد أغلب جماليات عروض مسرحياته، ومواطن قوتها – وهي كثيرة ([68]) – ولكنني سأذكر هنا المواطن التي جاءت من خلال دوره كمؤلف ومُعدّ لها!!
فعلى سبيل المثال - في مسرحية (نعنوعة) - ينقد الجابر فنياً مشهداً تمثيلياً لخروج الدجاجة وهي تتثائب، ثم تغسل وجهها بالماء، وتنطف أسنانها، مثلما فعل الديك، فيقول الجابر بعد ذلك: " وهنا يوجه المؤلف رسالة لأطفال هذه السن حول أهمية النظافة دون أن يرافقها خطاب وعظي أو حوار مباشر، بل تعتمد على الفعل الذي تقوم به الشخوص، ليفهم الطفل الرسالة من خلاله. أما بالنسبة لخروج الدجاجة متأخرة بعض الشيء عن الديك، فقد جاء متعمداً من المؤلف رغبة منه في إيصال رسالة أخرى حول أهمية الاستيقاظ مبكراً، والاعتذار عن التأخير من خلال حوارها معه" ([69]). وفي مشهد آخر – للمسرحية نفسها – تعرض القطة مشكلتها، ثم تبدأ في البكاء، " وينتبه المؤلف هنا إلى تشابه سلوك القطة مع كثير من الأطفال، الذين يرون أن حل مشاكلهم لا يتأتى إلا عن طريق البكاء، فيبعث رسالة على لسان الديك، مفادها أن البكاء لا يحل مشاكلنا ... وإن الأمر بحاجة إلى إعمال الفكر لإيجاد حل آخر غير البكاء" ([70]).
وهذا الأسلوب في تناول العرض فنياً من قبل الجابر، نجده كذلك في مسرحيتي (بونوكيو)، و(أليس في بلاد العجائب). أما مسرحية (كونان في أرض البوكيمون)؛ فقد علق عليها الجابر تعليقاً مباشراً – لما نحن بصدده – قائلاً: "أرى من وجهة نظري كناقد لا كمؤلف، أن هذا النص هو الأكمل والأكثر اتقاناً بالنسبة للأعمال السابقة لمؤلف، فالنص مكتمل العناصر من حيث الأسلوب، التكثيف، الاختصار، والتصاعد الدرامي المرسوم بدقة، والحوارات التي خلت من الزوائد والرتوش والإسهاب، كما يزيده تفضيلاً أنه جاء بلغة فصحى مبسطة تتناسب ومدارك الطفل لكنها في نفس الوقت ترتفع به أحياناً وتضيف إلى قاموسه بعض المفردات، خاصة فيما يتعلق بحماية البيئة والتلوث والحفاظ على الطاقة والموارد الطبيعية من أرض وهواء وماء .. إلخ، وينبه المؤلف هنا إلى أهمية حماية البيئة، ويحذر من مخاطر التلوث، وهو يتفق ويؤكد مثلما أكد كثير من العلماء والخبراء الاستراتيجيين أن الحرب القادمة هي (حرب الماء)، ويتمنى من الأطفال الحذر قبل فوات الأوان وقبل أن يتحول الأمر إلى كارثة قد لا ننجو منها جميعاً!؟" ([71]).
اعترافات الجابر
السبب الثالث – غير المباشر – لتجربة الجابر في نقد أعماله ذاتياً، تمثل في اعترافاته ببعض الأمور المؤثرة سلباً على أعماله المسرحية – نصاً وعرضاً – والتي لا يُمكن معرفتها إلا من خلاله هو فقط!! لذلك وجد الجابر الفرصة سانحة ليدلي بهذه الاعترافات، طالما قرر التصدي بنفسه لأعماله المسرحية – عروضاً ونصوصاً - ووضعها تحت مقصلة النقد الذاتي! والغريب أن هذه الاعترافات تُدين الآخرين – من وجهة نظر الجابر - وتُزيد من تعاطف من يقرأها تجاه كاتبها علاء الجابر!!
ومثال على ذلك حديثه عن موقف الرقابة من نص مسرحية (سالي)، حيث طلبت منه مقررة اللجنة إضافة مشهد يؤكد قيمة العمل بطريقة خطابية فجة! ولكنه رفض في بادئ الأمر، ثم رضخ للأمر خشية رفض النص، وقام بإضافة المشهد المطلوب. إلى هنا لا طرافة في الموضوع! ولكنه بعض عدة أسطر يعترف بأن هذا المشهد – بالاتفاق بينه وبين المخرج – تمّ شطبه، وتمّ عرض النص الأصلي!! وحتى الآن لم أتبين ضرورة وجود هذا الاعتراف في كتاب الجابر، طالما أن العرض تمّ من خلال النص الأصلي! هل المقصود هو إظهار الرقابة بصورة ديكتاتورية؟ أم إظهار العاملين فيها بأنهم لا يقدرون النصوص التي يقرأونها؟ أم المقصود إظهار براعة الجابر في تحطيم القوانين والالتفاف حولها؟ أم المقصود الدعوة إلى عدم الاهتمام برأي الرقيب المسرحي؟! الحقيقة أن هذه الأمور كلها مطروحة، خصوصاً وأن الجابر أنهى اعترافه هذا بقوله: " وهنا لابد من الإشارة إلى تعنت الرقابة غير المبرر أحياناً"([72]).
وفي مسرحية (علاء الدين 92) اتهم الجابر صراحة المخرج (محمد خالد) بأنه السبب وراء الخلل الموجود في العرض، بالاتفاق بينه وبين الممثل النجم! قائلاً: " شعرت بعد مشاهدتي للعمل على خشبة المسرح بأن هناك خللاً كبيراً وقع فيه العرض، مما جعل العمل يصبح في نظري الأقل قيمة بالنسبة لجميع أعمالي في مسرح الطفل! رغم عمق رسالته وأهميتها، ولا أعرف – حتى هذه الساعة – هل كان الخلل قصدياً من المخرج أم جاء بسبب خروج بعض الممثلين عن النص؟! ولكن وفي كلا الحالتين فإنني أعتبر المخرج (محمد خالد) مسئولاً عما حصل على اعتبار أنه سيد العمل المسرحي (العرض) ولا يمكن لممثل أن يتجاوز أو يتطاول على العمل، دون أن يستشف الموافقة منه فعلياً أو ضمنياً" ([73]). ومن وجهة نظري أرى أن هذا الاتهام يجب أن يوجه إلى الممثل النجم (داوود حسين)، لا إلى المخرج!! فالجابر صرّح كثيراً أن الممثل النجم له السلطة والقوة في فعل أي شيء على خشبة المسرح؛ وهذا يعني أن المخرج – ربما استحياءً أو خجلاً من النجم – لم يعترض عن أفعال داوود حسين وتلاعبه بالنص والعرض، لا سيما وأن العرض ينتمي إلى المسرح التجاري!!
وفي مسرحية (بونوكيو)، يعترف الجابر بأن لجنة الرقابة وافقت على النص باسم (خُشيبة) – تصغير خشبة – لكن المنتج فضلّ اسم (بونوكيو)، فوافق الجابر على مضض!! ولم يُوضح لماذا وافق على مضض ([74])! الغريب أن الجابر استرسل في اعترافاته فيما يتعلق بهذه المسرحية، قائلاً: " قُدم هذا العرض فيما بعد بنجاح أيضاً في مملكة البحرين وسلطنة عمان وفي هذا الصدد أتذكر بمرارة ما قام به المنتج (عادل اليحيى) من تصرف غير حضاري حين رفع اسمي دون سبب من إعلانات المسرحية وكتيباتها في كلا البلدين، رغم أن وظيفته كمحامٍ تتطلب منه الحفاظ على حقوق الآخرين؟! وخاصة فيما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية، ولولا تدخل الأصدقاء لما تنازلت عن حقي في ذلك" ([75]). ومن وجهة نظري أرى أن الجابر لم يكن مُصيباً في تنازله عن حقه الأول، وهو تغيير اسم المسرحية – خصوصاً وأن الجابر شديد المراس - فربما هذا التنازل أوحى للمنتج أن التنازل سمة عند الجابر، فكرر الأمر معه مرة أخرى؛ ولكن في أمر لا يقبل الفصال، وهو التنازل عن الاسم!! ولا أتفق مع الجابر في هذا التنازل للمرة الثانية، خشية أن تكون عادة له في المستقبل، وهو أمر مُستبعد كليةً لشخص مثل علاء الجابر!!
وهناك اعترافات أخرى عديدة للجابر، تتعلق ببقية مسرحياته، منها: اعترافه بأن اختياره للطفلة (ندى شداد) لتُمثل في مسرحيته (نعنوعة) جاء من باب العاطفة؛ لأن شقيقتيها ضمن ممثلي العرض، وهذا الاختيار العاطفي أثر سلباً على العرض ([76])، وكذلك اعترافه الصريح بأنه مؤلف مسرحية (كونان في أرض البوكيمون)، ولم يكن مُعدّاً لها كما أعتقد البعض ([77]). وهذه الاعترافات وغيرها، تصبُّ في صالح الجابر؛ لأنها تستدر عطف القارئ عليه، وتلتمس له العذر رغم إدانتها الظاهرية له!
التوثيق
التوثيق هو السبب الرابع والأخير – غير المباشر – لتجربة الجابر في نقد أعماله ذاتياً. فطالما كتاب (مسرحياتي كما أراها الآن)، يتناول الحديث عن أعمال الجابر المسرحية (نصوصاً وعروضاً)، فما الضرر من إيراد البيانات التوثيقية لهذه الأعمال. والجدير بالذكر إن التوثيق انقسم إلى نوعين: الأول، توثيق عام للمسرحيات، والآخر، توثيق شخصي لبعض العاملين في عروض هذه المسرحيات.
ومن أمثلة النوع الأول، أن مسرحية (سالي) أعدّها الجابر عن القصة البريطانية (الأميرة الصغيرة) ومُثلت على مسرح كيفان يوم 27/1/1992 لمدة 45 يوماً، وكان الجابر أحد أطراف الإنتاج وكاتب الأغاني ومصمم الأزياء. ومسرحية (علاء الدين 92) قُدمت يوم 3/4/1992، وعُرضت 48 عرضاً. ومسرحية (نعنوعة) قُدمت على مسرح بيان يوم 10/6/1992، وبلغ مجموع عروضها 40 عرضاً. ومسرحية (بونوكيو) عُرضت يوم 7/1/2000، واستمر عرضها لأكثر من ثلاثة شهور متواصلة. ومسرحية (كونان في أرض البوكيمون) عُرضت على مسرح حولّي يوم 23/12/2000، واستمر عرضها لأكثر من شهرين.
ومن أمثلة النوع الآخر في التوثيق، أن الممثلة (هدى أحمد)، كان ظهورها لأول مرة في مسرحية (سالي)، وهي أول مسرحية أطفال يشترك فيها الممثل (خليفة خليفوه) دون أن يكون مخرجها أو منتجها. ومسرحية (علاء الدين 92) كانت أول عمل مسرحي يعود به الفنان داوود حسين إلى الكويت بعد غياب عنها، وكذلك مسرحية (أليس في بلاد العجائب) كانت العمل المسرحي الذي عادت به الفنانة (هدى حسين) إلى الكويت بعد غياب عشر سنوات. وكانت مسرحية (كونان في أرض البوكيمون) أول عمل للممثل (أسامة الخرس)، وكانت أيضاً أول عمل للماكير (جعفر حاجيه) في مسرح الطفل خارج نطاق المعهد العالي للفنون المسرحية.
سؤال وجواب :
حاولت جاهداً أن أُجيب عن أغلب الأسئلة التي طرحتها في سياق البحث؛ ورغم ذلك لم أجب حتى الآن على الأسئلة التي طرحتها في تمهيد البحث، عندما كان مجرد فكرة تدور في رأسي! لذلك يجب عليّ القيام بذلك الآن، قبل أن أنهي هذه الدراسة.
أول سؤال طرحته: ما جدوى نقد الأعمال الإبداعية، التي عُرضت – أو كُتبت – في زمن يختلف عن زمن تناولها النقدي؟ الإجابة تتمثل في أن الجابر لم يكتب نقده الذاتي إلا بعد مرور ثلاث عشرة سنة من عرض مسرحيته الأولى، وخمس سنوات من عرض آخر مسرحياته، وهذا يعني أنه تفحص تجربته الإبداعية تفحصاً دقيقاً، ووجد أن أدواته اكتملت لخوض تجربة النقد الذاتي، وهذا يدل على أنه كان واعياً بما يقوم به، ولم يكن متسرعاً في خوض التجربة، أو في إصدار أحكامه. أما السؤال الثاني، فكان: هل يحق للمبدع ارتداء ثوب الناقد، وما جدوى ذلك؟ الإجابة تتمثل في أن المبدعَ مبدعٌ، والناقدَ ناقدٌ!! ويجب أن يلتزم كل منهما بدوره .. هذه هي الإجابة المنطقية؛ ولكننا أمام تجربة فريدة، ربما تُغيّر من هذا المنطق، لأن صاحبها ناقد ومبدع في آن واحد!
ونأتي هنا إلى السؤال الأخير، والأهم في مُجمل الأسئلة: هل نقد المُبدع لإبداعه يُمثل نهاية النقد، وعدم قبول أي نقد آخر؟! الإجابة هنا مُحيّرة!! لأن الواقع يقول إن أعمال الجابر لم تلقَ اهتماماً كبيراً من النقاد بالنسبة إلى النصوص! واهتمامهم اتجه (فقط) نحو تغطية بعض البروفات، ولم يهتموا بالعروض نفسها! وهذا الإحجام ربما أفسره بأن النًقاد لم يجدوا في هذه الأعمال مثالب تُذكر، أو سلبيات فنية تستحق النقد! وربما يكون الإحجام سببه الخشية من جرأة الجابر، وآرائه الصادمة في كثير من الأحيان! وأكبر دليل على ذلك؛ إنني عندما تعرضت لهذه التجربة في بحثي هذا، توهمت بأنني سأجد مادة ثرية، أستخدمها في البحث بوصفها مراجع؛ ولكنني فوجئت بعدم وجود أية مقالة – ولو من باب عرض التجربة، أو حتى من باب المجاملة – لهذه التجربة، أو لكتاب (مسرحياتي كما أراها الآن)!!
الخاتمة
من خلال إبحارنا في تجربة النقد الذاتي للناقد المبدع علاء الجابر، نستطيع القول بأنها تجربة فريدة، وأداة نقدية جديدة لنمو الذات ونضجها أدبياً وفنياً، رغم ما بها من قصور بوصفها التجربة الأولى في مجال المسرح العربي. وهذه التجربة – التي أعدّها ناجحة – لم يقم بها أحد من قبل، وكوّن الجابر رائدها حتى الآن – حسب علمي – فهذا بسبب عوامل خاصة، ربما لم تتوفر لغيره من المسرحيين! فالجابر دارس للمسرح، وقارئ جيد في جميع نواحيه، وهذا يعني أنه يمتلك الأساس النظري. كما أنه ناقد قدير، ومبدع متألق في مجال مسرح الطفل، وهذا يعني أنه مُمارس عملي للنقد والإبداع المسرحيين، وبناء على ذلك يستطيع الجابر ممارسة النقد الذاتي؛ الذي يُعدّ أفضل أسلوب لتوجيه العقل وقيادته في تكوين الأحكام الصحيحة؛ لأن النقد الذاتي نتيجة معادلة، تتكوّن من ارتباط التنظير بالتطبيق، وهذا ما قام به علاء الجابر، فجاءت أحكامه موفقة - ولو من خلال وجهة نظره الشخصية - فتجربة الجابر في النقد الذاتي، تُعدّ مظهر قوة له؛ فقد حاول أن ينقد ذاته – حتى ولو في صورة نقده للآخرين – أي حاول أن يُصحح أخطاءه وأخطاء فريق عمله، ومن يُصحح أخطاءه – أو يُحاول تصحيحها – يكسب احترام الجميع، بدلاً من التستر عليها، فينال سخرية الجميع! أليس هو القائل عن زملائه في العمل المسرحي: " لم أقصد التقليل من أعمالهم أو طعنهم شخصياً حينما كنت أنتقدها، بل إن قول الحقيقة هو الذي دفعني لذلك" ([78]).
وهذه النظرة الإيجابية تجاه تجربة الجابر في نقده الذاتي، تُقابلها نظرة أخرى – ربما – تكون مُضادة!! حيث لاحظنا أن الجابر لم يلتزم بنقد أعماله هو ذاتياً، بل مسّ دوره – كمؤلف ومُعدّ - مسّاً طفيفاً في بعض السلبيات، التي من الممكن النظر إليها على أنها إيجابيات – كما مرّ بنا – وفي المقابل وجدناه يتعرض لأعمال الآخرين ممن أفسدوا نصوصه بأفكارها وأهدافها التربوية؛ ولكننا قرأنا نقده هذا من خلال وجهة نظره هو!! والسؤال الآن: لو سنحت الفرصة نفسها لهؤلاء الآخرين، وكتبوا نقداً ذاتياً لدورهم في هذه العروض .. هل سيتقبل الجابر آراءهم؟! أليس من الممكن أن يقوم المخرج بتبرير كل ما ذكره الجابر ضد الإخراج، وأثبت أن النص لم يكن على مستوى العرض، لذلك أدلى المخرج بوجهة نظره الفنية، التي عالجت قصور النص؟! والأمر نفسه بالنسبة للممثل، حيث من الممكن أن يكتب – نقداً ذاتياً – لدوره في هذه العروض، ويثبت أنه – بوصفه ممثلاً – استطاع أن يفهم الشخصية، ويتعايش معها، بصورة أفضل من الصورة التي كتبها المؤلف، وحدد أداءها المخرج!!
وطالما نحن في محاولة تقييم تجربة أولى رائدة، فلابد لنا من التروي حتى تكتمل التجربة بتجارب لآخرين، ومع تراكم التجارب، ربما نستطيع أن نضع قوانين النقد الذاتي في مجال الأدب والإبداع والنقد، رغم صعوبة صياغة هذه القوانين! لأننا نتعامل مع فن .. أي مع وجهة نظر تختلف من فنان إلى فنان آخر له وجهة نظر مختلفة لفنه، ومن مبدع إلى مبدع مختلف في تناوله لهذا الإبداع .. إلخ الاختلافات المشروعة في مجال الفنون والعلوم الإنسانية، التي ترتكز على ثقافات مختلفة، وتوجهات متباينة، وتراث متنوع ... إلخ، ناهيك أننا نتعامل مع (المسرح) بقوانينه التي تتحطم كل يوم أمام تطور التقنيات، وتغيير المفاهيم، وكفى بنا النظر إلى مهرجان المسرح التجريبي الذي يأتي بتجارب بلدان العالم المختلفة كل عام!! فعندما تستقر القوانين والقواعد والأصول .. نستطيع أن نحدد مفاهيم وأصول النقد الذاتي، وهو النقد الذي سيتربع علاء الجابر على عرش ريادة تجربته الأولى.
الهوامش
([6])- تدور أحداث هذه المسرحية حول الطفلة (سالي) ابنة رجل الأعمال الثري، الذي تضطره الظروف إلى السفر، وإدخال سالي إحدى المدارس الداخلية. وفي هذه المدرسة تتعرض سالي إلى غيرة بعض زميلاتها، كما تلقى الحب والتقدير من البعض الآخر. ومع مرور الأيام يأتي خبر وفاة والدها، فينقلب صاحب المدرسة عليها، ويعاملها بجفاء وصل إلى حد وضعها في اختيار صعب بين طردها من المدرسة، أو اشتغالها خدامة إذا أرادت مواصلة دراستها، فتقبل بالحل الأخير. ومع معاناة سالي في وضعها الجديد، تظهر الحقيقة بأن والدها على قيد الحياة، ومع عودته تعود سالي إلى وضعها الطبيعي السابق، ويقوم والدها بافتتاح مدرسة جديدة مجانية، تضم سالي وزميلاتها المخلصات، لا سيما خادمة المدرسة.
([13])-تدور مسرحية (علاء الدين 92)، حول الشاب علاء الدين الذي يعيش في عصرنا الحالي ويعشق العلم والمعرفة، ويقع بيده مصباح سحري قديم يبتاعه من أحد بائعي التحف القديمة، فيظهر له مارد المصباح ولشقيقته شروق، ويبدي المارد استعداده لتنفيذ كل طلباتهما. يسخر علاء الدين وشقيقته من قدرات المارد المتواضعة أمام إنجازات العلم الحديث، فيشعر المارد بالضعف والخجل، ويرغب في معرفة نوع السحر الذي فاق سحره، وأوصل الحياة إلى كل هذا التقدم، ويكتشف أن العلم الذي وصل إليه الإنسان جعله يتجاوز في قدراته قدرة السحر فيطلب من علاء الدين وأخته البقاء في عصرهما، والانتظام في المدرسة التي تمنح الإنسان كل هذا العلم، الذي يفوق ما لديه من قدرات سحرية.
([15])- تدور أحداثها في حقل يمتلكه ديك ودجاجة. يتوافد على الحقل مجموعة من الحيوانات: بطة، وحمار، وقطة، وأرنب، وعنزة، وبقرة. وكل حيوان جاء هارباً من مشكلة واجهته ولم يستطع حلها إلا بالهروب منها إلى هذا الحقل. ويتم اتفاق بين الجميع على العيش في سلام دون تعرض أحدهم للآخر. وبمرور الوقت يقرر الجميع التعاون في زراعة الحقل من أجل تأمين الغذاء. وفي يوم الحصاد يفاجأ الجميع بأن أحدهم سبق الآخرين في حصد المحصول، فتبدأ الحيوانات بوضع خطة لكشف الفاعل ومعاقبته.
([17])- تدور أحداثها حول الصبي (بونوكيو)، الذي صنعه أحد النجارين من الخشب، وتمنى النجار أن يحوله الله إلى صبي حقيقي، حيث إن النجار لم يُرزق بأطفال؛ ولكن كذب بونوكيو أجلّ تحقيق الحلم، وجعل عقابه يتمثل في إطالة أنفه كلما كذب. وتمر الأحداث خلال متاعب كثيرة يتعرض لها بونوكيو بسبب اعتياده على الكذب، وفي النهاية يقتنع بونوكيو بمضار الكذب فيمتنع عنه، فيحقق الله أمنية النجار، ويتحول بونوكيو الأراجوز الخشبي إلى طفل حقيقي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق