الجمعة، 2 سبتمبر 2011

متحف الفن الإسلامي في دولة قطر


متحف الفن الإسلامي في دولة قطر
                                                     د. سيد علي إسماعيل
ـــــــــ
مقدمة
الحضارة الإسلامية .. عبارة خلاّبة رنانة تثلج الصدر، عندما يسمعها الإنسان مغمض العينين، حيث يتذكر تلك الحضارة الغابرة؛ التي لا وجود لها الآن؛ إلا في كتب التاريخ والتراث. أما أغلب الشباب في العالم الإسلامي العربي، فلا يعرف عن هذه الحضارة إلا القليل النادر مما يسمعه من فتات الجمل والأقوال؛ التي تُذكر عرضاً في البرامج الإعلامية، أو التي تُنشر على استحياء في بعض المقالات الصحافية والكتب الحديثة. وأنا هنا لا أتحدث عن الشباب عموماً، بل أخصّ منهم شباب الجامعات العربية، فهم مستقبل الأمة، وبأيديهم ستُبنى الحضارات، أو بأيدهم سيُفنى ما بقى من حضارة الأجداد!
في الفصل الدراسي السابق بجامعة قطر، وفي أثناء إحدى محاضرات مقرر (الأدب المقارن)، خرجت مني عبارة (الحضارة الإسلامية وأمجاد العرب قديماً)، أثناء تعريف مصطلحي (المقارنة والموازنة)، والفرق بينهما. هنا رفعت الطالبة (مريم جبران الشهراني) يدها للسؤال، فسمحت لها، فقالت: "أعذرني يا دكتور أنا غير مقتنعة بأن العرب المسلمين كانت لهم أصلاً حضارة"! فأردت أن أقنعها بحقيقة هذه الحضارة؛ لكنها أبت أن تقتنع! فما كان مني إلا أن كلفتها بكتابة بحث في هذا الشأن، تثبت فيه وجهة نظرها. وبعد شهرين قدمت الطالبة بحثها، وكان بعنوان (موازنة بين بعض العلماء العرب والمسلمين). وفي مقدمته قالت: "في البداية أحب أن أبين وجهة نظري في سبب اختياري للبحث، وهو أني لا أحب ذكر أمجاد العرب القديمة، وعدم التفكير في مستقبلنا. وهذا ليس قلة انتماء مني؛ ولكني لا أحب البكاء على الأطلال. وفي الحقيقة لم تكن لي نظرة إيجابية لمستقبل العرب والمسلمين. ولا أنكر أني غيرت من نظرتي المأسوية لمستقبلنا، بل وأحاول بمنظور شخصي ألا أكتفي بدراستي الجامعية، بل أفكر بدراسة الماجستير والدكتوراه إن شاء الله، وهذا بسبب الثقة التي يزرعها فينا الدكتور الفاضل ... الذي لا أنكر مدى تأثري بكلماته لي أثناء المحاضرة، وما يزرعه فينا من قيم تعليمية رائعة". وبحث الطالبة تعرض إلى مجموعة من العلماء، منهم: ابن الهيثم، وابن رشد، وابن سينا، والرازي ... إلخ هذه الأسماء.
كم كنت سعيداً بهذه النتيجة؛ لأنني نجحت في إعادة الثقة لإحدى طالباتي في ماضينا المشرق، وكم كان ابتهاجي بأن الطالبة قويت عزيمتها، وبدأت ترسم منهجاً مدروساً لمستقبلها العلمي. فقد قرأت وبحثت واقتنعت بأن الماضي من الممكن أن يدفع الإنسان لرسم حضارة مستقبلية، لا تقل قيمة عن حضارتنا الإسلامية في الماضي. هذه كانت نتيجة القراءة والبحث، فما بالنا بنتيجة الرؤية! بمعنى آخر: ماذا كانت النتيجة لو أن هذه الطالبة شاهدت نماذج من حضارة العرب والمسلمين، وما قاموا به من أعمال جليلة؟! من المؤكد أن النتيجة ستكون باهرة، خصوصاً وأن هذه النماذج على مقربة من الجامعة، محفوظة ومعروضة في جلال ووقار - داخل (متحف الفن الإسلامي) في الدوحة بدولة قطر - تنطق بعظمة الحضارة الإسلامية العربية.
بين الماضي والحاضر
كان افتتاح هذا المتحف - في ديسمبر 2008م - حدثاً عالمياً فنياً فريداً. والجدير بالذكر أن أغلب مقتنياته عُرضت مرتين قبل عرضها في متحف الدوحة: الأولى في متحف اللوفر بباريس، تحت عنوان (من قرطبة إلى سمرقند) من مارس إلى يونية عام 2006م، والأخرى في قصر الشيخ فهد بن علي بالدوحة في ديسمبر 2006م، بمناسبة دورة الألعاب الآسيوية. وقد اهتمت الحكومة القطرية بمكان أقامة المتحف، فردمت جزءاً كبيراً من مياه الخليج؛ لتشكل جزيرة صناعية، أقامت عليها مبنى المتحف، خوفاً من إقامته على الكورنيش فتحجبه الأبراج والأبنية الشاهقة عن الأعين!
وعلى الرغم من حداثة مبنى المتحف، إلا أنه بُنيّ على فكرة من التراث المعماري العربي الإسلامي. فعندما أراد المهندس الصيني الأصل (إيوه مينج بايّ)، وضع تصميم لهذا المتحف، زار الجامع الكبير في قرطبة، ثم مسجد جاما في الهند، ثم الجامع الأموي في دمشق، وهكذا جاب الأقطار الإسلامية والعربية، حتى وصل إلى مصر، وشاهد فيها مسجد (أحمد بن طولون) في القاهرة، فوجد مبتغاه قائلاً: " وجدت أخيراً ما اعتبرته الروح الحقيقية للعمارة الإسلامية وسط جامع ابن طولون". وهذا الجامع شيده أمير مصر – أحمد بن طولون – بين عامي (876-878م)، ويتميز بمنارته الفريدة، التي قال عنها الدكتور زكي محمد حسن، أشهر مؤرخي العمارة الإسلامية: " إن أغرب ما في جامع بن طولون إنما هو منارته أومئذنته، وهي تقع في الرواق الخارجي الغربي، وتتكون من قاعدة مربعة، تقوم عليها طبقة أسطوانية، عليها أخرى مثمنة. أما مراقيها فمن الخارج على شكل مدرج حلزوني ... فهي عجيبة الشكل جليلة النظر". وهذه المنارة هي النموذج المحتذى في تصميم متحف الفن الإسلامي في قطر.
تطور الفن الإسلامي
المعروف أن الفن العربي الإسلامي بدأ ظهوره في عصر بني أُميّة؛ عندما بدأ العرب يقتبسون الفنون البيزنطية المنتشرة في الشرق - خصوصاً في سورية - فتمثلوها في أشكال فنية خاصة، تُعدّ مرحلة انتقال من فن إلى آخر. وهذا الفن الجديد انتقلت أساليبه على يد الصُنّاع المُستقدمين من الشام ومصر إلى سائر الأقاليم الإسلامية، لا سيما الأندلس، التي تزخر بآثار ذات طراز أموي. وعندما جاءت الدولة العباسية، انتقل مركز الخلافة إلى العراق، فتأثرت الفنون بالأسلوب الفارسي، فاتصفت الفنون بالصفة الإسلامية، أكثر من اتصافها بالصفة العربية، وظهر هذا التحول في سامراء.
ومع ضعف الدولة العباسية، نشأت أساليب فنية محلية تبعاً لحكامها، ومثال على ذلك الطولونيون الذين بعثوا طرازاً فنياً إسلامياً خاصاً بهم في مصر، ومن بعدهم جاء الفاطميون فتميز الفن في عهدهم بالترف والاستقلال والتميز عن الفنون العربية والإسلامية السابقة. ومن بعدهم جاء عصر الأيوبيين والمماليك، الذي اتسم بالحياة المترفة، فامتلأت القصور بالتحف والنفائس الثمينة، وتنافس الأغنياء في اقتناء كل ما ندر وجوده، وغلى ثمنه. ويُضاف إلى فنون هذه العصور التاريخية، فنون عهود أخرى، مثل: الفن السلجوقي، والمغولي، والصفوي، والعثماني.
شهادة جوستاف لوبون
تاريخ هذه العصور، هو الذي شكّل الحضارة الإسلامية، التي يشهد بقوتها وبهائها آثارها المتبقية الناطقة بعظمتها. وكفى بنا أن نستشهد بقول العالم الفرنسي (جوستاف لوبون) في كتابه (حضارة العرب) - المنشور عام 1884م - حينما قال: "يكفي الإنسان أن ينظر إلى إحدى البنايات التي أُقيمت في دور راقٍ من أدوار الحضارة العربية، مسجداً كان ذلك البناء أو قصراً، أو أن ينظر إلى ما صُنع فيه من دواة أو خنجر أو جلد قرآن ليرى لهذه الآثار طوابع خاصة لا يتطرق الوهم إليه في أصلها، والباحث في مصنوعات العرب، كبيرة كانت أو صغيرة، لا يرى فيها أية صلة ظاهرة بمصنوعات أية أمة أخرى، فالإبداع في مصنوعات العرب تام واضح. وتتجلى قوة الإبداع الفني في الأمم في سرعة تحويل ما ظفرت به من عناصر الفن وجعله ملائماً لاحتياجاتها وابتكارها بذلك فناً جديداً، فإذا تحقق هذا لدينا عَلمنا أن العرب لم تسبقهم أمه". وهذه الشهادة التي قيلت عام 1884م - من قبل عالم فرنسي - تؤكدها مقتنيات متحف الفن الإسلامي في الدوحة.
مقتنيات مصرية وسورية
بسبب صعوبة الحديث عن جميع مقتنيات المتحف – في هذه المقالة المقتضبة – سنقصر حديثنا على بعض النماذج. وأول ما نلاحظه في مقتنيات المتحف، هذا الكم الكبير من المقتنيات الأثرية المصرية والسورية. والمعروف أن العلاقات المصرية السورية علاقات وشيجة مترابطة ومتادخلة تاريخياً وثقافياً، وهذا التلاحم الحميم ظهر تأثيره في بعض مقتنيات المتحف؛ حيث كُتبت على بعض اللافتات التعريفية للمقتنيات الخاصة بمصر وسورية، هذه العبارة: (مصر أو سورية).
وأولى القطع الثمينة (زوج من الأساور على شكل ماسة) يعود إلى القرن الحادي عشر الميلادي. وهذه القطعة الذهبية مزينة بأسلاك من ذهب ونقوش محببة وبارزة، وتتميز بدقة التفاصيل، وزخارفها على شكل سعف النخيل، وهي زخارف تميز بها الفن الفاطمي. وهذه القطعة تدل دلالة كبيرة على حياة ترف الفاطميين كما جاء في التاريخ. والقطعة الثانية (مبخرة)، يعود تاريخها بين عامي 1294 و1340م، وهي من النحاس الأصفر مع ذهب مكفت بالفضة ومادة مركبة سوداء. وهذه القطعة آية في النقش والزخرفة والتكفيت والكتابات الإسلامية والأدعية، تمت صناعتها بعناية شديدة تتناسب مع اهتمام العرب المسلمين بالبخور وتأثيره الروحاني المعروف، وهذا الأمر ينطبق أيضاً على القطعة الثالثة (علبة البخور)، التي تتشابه إلى حد كبير مع المبخرة السابقة – في مادتها وتكفيتها وزخارفها ونقوشها وعباراتها - ونظن - من وجهة نظرنا - أن القطعتين لصانع واحد. والنموذج الرابع هو مجموعة من مصابيح المساجد، المعروفة بـ (المشكاوات)، ويعود تاريخها إلى النصف الأول من القرن الرابع عشر الميلادي. وهذه المشكاوات تؤكد ما هو معروف تاريخياً عن مكانة سورية في صناعة الزجاج في العصور الوسطى – حيث إن هذه المشكاوات منسوبة إلى سورية بنسبة 50% - كما أن جمالها وبهاءها يؤكدان تاريخ فن المشكاوات وصناعتها، حيث لوحظ أن أعظم المشكاوات الزجاجية وأدقها صناعة وأبدعها زخرفة، هي المشكاوات المصنوعة في القرن الرابع عشر الميلادي، وهو القرن المنسوب إليه أغلب مشكاوات متحف الفن الإسلامي في قطر.
وإذا نظرنا إلى القطع الثمينة المقطوع نسبتها إلى مصر صراحة، سنجد (سلطانية) فخار من القرن الثاني عشر الميلادي، ذات رسم وزخارف مطلية بالبريق المعدني. ورغم قيمة هذه القطعة تاريخياً، إلا أن القيمة الميثولوجية للرسم الموجود بها؛ تُزيد من قيمتها التاريخية؛ حيث إن الرسم الموجود هو لطائر خرافي برأس امرأة، وهذا الكائن كان الفنانون قديماً يعدونه ملك الكائنات المجنحة ورمز النور، كما كان يُعتقد في قدرته على جلب الحظ. وربما لهذا الكائن صلة ما بأسطورة السيرانة اليونانية المعروفة، الممثلة لكائنات لها رؤوس نسوة وأجساد طيور، وهذه الكائنات كانت تسحر البحارة والملاحين وتقضي عليهم. وإن صحت هذه الصلة، ستكون هذه السلطانية دليلاً جديداً على امتزاج الفن الإسلامي بفنون أوروبا وأساطيرها.
ومن القطع الثابت نسبتها إلى سورية (مصباح مسجد) عام 1277م، من النحاس الأصفر المكفت بالفضة، صُنع لضريح السلطان الظاهر بيبرس، ويحمل اسمه، ونُقش عليه دعاء يقول: (قدس الله روحه ونور ضريحه)! وربما هذه العبارة تجنح إلى الأدعية النصرانية، ولكن التاريخ يثبت أنها من العبارات المستخدمة إسلامياً، ففي كتاب (النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية)، قال المؤلف - يوسف بن رافع بن تميم بن عتبة الأسدي الموصلي - عن وفاة صلاح الدين الأيوبي: "وكان نزوله في حفرته قدس الله روحه ونوّر ضريحه قريباً من صلاة العصر".
مقتنيات عراقية
وإذا انتقلنا إلى العراق، سنجد المتحف يحتوي على مقتنيات عراقية معدنية كثيرة، أغلبها يُنسب إلى مدينة الموصل في القرن الثالث عشر الميلادي. وهذه المقتنيات تشهد لمدينة الموصل – كما جاء في تاريخ الفنون – بزعامتها الفنية في صناعة التحف المعدنية، حيث كانت أعظم المراكز الفنية في العالم الإسلامي – طوال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الميلاديين - في فنون المعادن وتكفيتها، ومنها انتقل هذا الفن إلى سائر المدن العربية والإسلامية الأخرى بعد الغزو المغولي. ومن مقتنيات المتحف في هذا الشأن (شمعدان) نحاسي ذو نقوش بارزة متوازنة، و(علبة أسطوانية) نحاسية مكفتة بالنحاس الأحمر والفضة، و(إبريق) نحاسي مكفت بالفضة، و(مطرقة باب) نحاسية.
مقتنيات فارسية
أما المقتنيات الفارسية (إيران)، فكانت دُرّة محتويات المتحف، لا سيما في العصر السلجوقي الذي تميز بالتنوع في استخدام الأساليب الفنية. فعلى سبيل المثال تميز الفنانون في هذا العصر بأسلوب النحت على الحجر والجص، وخير دليل على هذا التميز (تمثال رأس) من الجص لأحد الأمراء السلجوقيين في القرنين الثاني والثالث عشر الميلاديين – المحفوظ في المتحف - يُنسب إلى مدينة الريّ؛ التي كانت أحد مراكز الإسلام في مجال التجارة والثقافة والفنون. كما تميز الفنانون أيضاً بزخرفة الأواني الخزفية بالطلاء المعدني (البريق المعدني)، الذي اشتهرت به مصر والعراق في القرن التاسع الميلادي، ومن ثم انتقل هذا الأسلوب إلى السلاجقة بعد هجرة فناني مصر والعراق إلى بلاد فارس بعد سقوط الدولة الفاطمية، واشتهرت مدينة (قاشان) بوصفها أحد المراكز الفنية الإسلامية في استخدام هذا الأسلوب الفني، الذي عُرف فيما بعد بـ (القاشاني)، ومنه جاء اسم (البلاط القاشاني). ومن الجدير بالذكر أن فناني السلاجقة لم تقتصر أعمالهم على البلاطات والزخارف القاشانية، بل تعدت هذا الأسلوب إلى صناعة التماثيل الخزفية (القاشانية)، الممثلة للأشخاص والطيور والحيوانات. ومن المقتنيات الممثلة لهذه الأساليب الفنية السلجوقية – المحفوظة في المتحف – (سلطانية) من أواخر القرن الثاني عشر الميلادي، مصنوعة من الفخار ذي البريق المعدني مع زخارف وعبارات ورسم يُوحي بقصة أسطورية، و(إبريق) على شكل قط من القاشان المزجج، و(لوحة) من البلاط الخزفي ذي البريق المعدني أيضاً.
وتأتي المقتنيات المعدنية – المنسوبة إلى العهد السلجوقي المحفوظة في المتحف - لتشهد بإزدهار الصناعة المعدنية في هذا العهد، تلك الصناعة التي بدأت بالنقش على المعادن وصولاً إلى قمة ازدهارها في ابتكار التكفيت، الذي نشأ في أول أمره في إقليم خراسان، ومنه انتقل إلى باقي المدن الفارسية، ومن ثم إلى الموصل بالعراق. وأولى القطع الفنية (إسطرلاب) نحاسي، صنعه حامد بن الخضر الخجندي، وكان – في الأصل - يُستخدم كأداة لتحديد فلك الأبراج ومواقع النجوم والجهات الأصلية. أما في الإسلام فكان يستخدم في تحديد مواقيت الصلاة واتجاه القبلة. وصانع هذه القطعة، يُعدّ أحد الرواد المسلمين في علمي الفلك والرياضيات، وقد أسهم في بناء المرصد الفلكي في بلاد فارس عام 994م، وأعتبره المؤرخون أول وأضخم مرصد فلكي متحرك في العالم. كذلك نجد – في المتحف – ثلاث مباخر معدنية – نحاسية وبرونزية – على شكل صقر أو أسد، تنتمي جميعها إلى القرن الثاني عشر الميلادي، وهي مباخر تدل على دقة الحفر والنقش على المعادن في العهد السلجوقي. كذلك نجد قاعدة مشعل نحاسية، وشمعدانين نحاسيين مزخرفين بالنقوش والتخاريم، أحدهما برأسي تنين. والمعروف أن التنين من الكائنات الأسطورية الخرافية الدالة على النُبل والقوة والعطاء والقيادة .. إلخ هذه المعاني، وموطن أسطورته الصين. ويُعدّ هذا الشمعدان مثالاً على امتزاج الثقافة الإسلامية بالثقافة الصينية في العهود الإسلامية الأولى. وآخر القطع المعدنية الإيرانية المختارة إناء نحاسي لجمع الصدقات المعروف بـ (الكشكول)، والمرتبط بالصوفية والدراويش.
مقتنيات عثمانية
من مقتنيات المتحف الناطقة بعظمة الدولة العثمانية، ضلفتا نافذة خشبية من عام 1270م، مصنوعتان من خشب الجوز المنقوش والمزخرف، مكتوب عليهما بالحفر البارز: (العاقل من وعظته التجارب، والجاهل من لا يفكر في العواقب). كذلك نجد (غلاّية) معدنية من النحاس الأحمر المسبوك من القرنين الثالث والرابع عشر الميلاديين، تدل ضخامتها ونقوشها البارزة على براعة واتقان فنيين، ناهيك عن الرسم البارز لفارس يمتطي حصاناً، دلالة على الشموخ والقوة رمزاً لقوة الدولة. كما نجد إبريقاً فضياً مذهباً من القرن السادس عشر الميلادي، مُزيناً بزخارف الأرابيسك المحفورة والمذهبة، مقبضه على هيئة تنين. وعلى الأغلب أن هذا الإبريق كان مستخدماً في القصور الحاكمة، لأن الفضة – المستخدمة في صناعته – تساعد على تطهير الماء – كما كان يُعتقد قديماً – لذلك كثرت صناعة أواني الشرب والوضوء من الفضة.
ومن القطع العثمانية النفيسة سيف قصير من الفولاذ المكفت بالذهب – والمعروف بـ - (يطغان)، صنعه مصطفى كمال الأقشهري - في فترة حكم بايزيد الثاني - للوزير هرسك زاده أحمد باشا (1456-1517م)، كما تشير إلى ذلك الكتابة المنقوشة على نصله، والتي تحمل أيضاً الدعاء للوزير بطول العمر. كذلك نجد قناعاً حربياً تركياً بديعاً، يعود إلى القرن الخامس عشر الميلادي نجده ضمن مقتنيات المتحف، وهو من الفولاذ ذي نقوش وعبارات محفورة مكفتة بالذهب. ونشاهد أيضاً (خوذة) فولاذية تركية من القرن نفسه، ذات كتابات محفورة مكفتة بالفضة. أما أهم القطع الحربية التركية – من القرن نفسه أيضاً – فهي درعان لفارس وحصانه من الفولاذ، وتم عرضهما في المتحف بصورة مجسمة كاملة، برهاناً على عظمة الفارس التركي، وقوة شكيمته.
مقتنيات هندية
كما يحتفظ المتحف الإسلامي في قطر بمجموعة لا بأس بها من المقتنيات الهندية، التي تعكس روعة الفن الإسلامي، لا سيما في زخرفة الأواني والتحف والمصاغ بالياقوت والزمرد والألماس والأحجار الكريمة. وأغلب هذه المقتنيات تعود إلى عصور الحكام (السلطان أكبر، وجيهان جير، وشاه جاهان). ومن هذه المقتنيات حجر كريم من العقيق المسمى (حجر الدم)، على هيئة تميمة بها صورة محفورة بارزة للأمبراطور (شاه جاهان)، يعود تاريخه ما بين عامي 1630 و1640م. والمعروف أن الهند من أكبر مواطن العقيق. ومن المحتمل أن هذه التميمة كانت تخص الأمبراطور نفسه – أو أحد أبنائه – فإن صورة الأمبراطور المحفورة، ونوع الحجر الكريم يوحيان بذلك، لأن من خصائص العقيق في المعتقد الشعبي: شحذ العقل، ومنح الفصاحة، وبث القوة، والنصر على الأعداء .. إلخ هذه الصفات؛ التي تتطابق مع صفات الأمبراطور. كما يقال أيضاً – في المعتقد الشعبي - إن حجر الدم يساعد على إزالة السموم من الجسم، وأن حامله لا يقترب منه الجان، ولا يؤثر فيه السحر. ومن هذا المنطلق يقوى الظن بأن هذه التميمة كانت تخص الأمبراطور شاه جاهان أو أحد أبنائه.
كذلك نجد زينة عمامة (جيغا) من القرن الثامن عشر الميلادي، من حجر الإسبينيل مرصعة بالزمرد والألماس والفضة المذهبة. وهذا البذخ في ترصيع زينة العمامة؛ راجع إلى أهميتها في انعكاس قيمة صاحب العمامة ومكانته في المجتمع. فالإنسان – كما في الأعراف العربية الإسلامية القديمة – لا يستطيع خلع العمامة في حضور الملوك والوزراء، وبالتالي تظل العمامة موجودة على رأس صاحبها في حضرتهم، وما زينتها إلا دلالة على رتبة مرتديها. ومن هنا جاء الاهتمام بهذه الرتبة (الزينة)، وترصيعها بأغلى وأنفس المجوهرات والأحجار الكريمة.
وهذا المفهوم ينطبق أيضاً على الخناجر الهندية المرصعة بالجواهر، والمتحف يحتفظ بمجموعة كبيرة منها، مثل خنجر يعود إلى القرن السابع عشر الميلادي، مصنوع من الياقوت والألماس والذهب. وخنجر آخر – وغمده - يعود إلى القرن الثامن عشر الميلادي، مصنوع من الفولاذ واليشم والياقوت والذهب والألماس والزمرد والحرير والخيوط المعدنية والخشب. وهذا الاهتمام في صناعة وترصيع مثل هذه الخناجر، يعود إلى عدم استخدامها بصورة فعلية، بقدر استخدامها في مجال الزينة، كوضعها ضمن ملابس التشريفات في الاحتفالات الرسمية، التي يحضرها الملوك والوزراء، دلالة على مكانة صاحبها. وجمال ترصيع التحف والأواني الهندية بالأحجار الكريمة يظهر جلياً في التحفة الفنية (الصقر) المرصع بالأحجار الكريمة، ويعود تاريخه إلى عام 1640م، وهو مصنوع من الذهب والمينا والياقوت والزمرد والألماس وحجر السفير. ويضاف إلى هذه التحف قارورة وقاعدتا نرجيلة (شيشة)، من القرن السابع عشر الميلادي، من اليشم والفضة المكفتة باللازورد والياقوت.
مقتنيات أندلسية
كانت حضارة الإسلام في الأندلس (أسبانيا)، حاضرة في أروقة متحف الفن الإسلامي في قطر، تلك الأروقة التي جمعت مقتنيات أندلسية عديدة، وقع اختيارنا على قطعتين متشابهتين في الغرض، مختلفتين في الشكل، هما رأسا نافورتين، الأولى على شكل آيلة (الشاة الجبلية)، والأخرى على شكل طائر. والقطعتان تنتميان إلى القرنين العاشر والحادي عشر الميلاديين، أي في زمن الحكم الأموي للأندلس. وقيمة هاتين القطعتين؛ أنهما شاهدتان على عمارة القصور الأندلسية الأموية، التي كانت تزخر بالحدائق ذات الفسقيات والنافورات البديعة. ومن يشاهد هاتين القطعتين، يتذكر قصر الحمراء في الأندلس وصحنه المشهور بـ (صحن السباع)، أو (بهو السباع)، وفسقيته الشهيرة بسباعها الاثنى عشر.
هذه نماذج يسيره تعطي للقارئ فكرة مبسطة عن محتويات المتحف، ولو اتسع المجال لتحدثت بالتفصيل عن مقتنياته الأخرى مثل: المنسوجات، والسجاد، والأختام، والأوزان، والنقود، والأباريق، والصناديق، والمخطوطات الأصلية، ونسخ القرآن الكريم المخطوطة، والكتابات الجدارية ... إلخ ما يزخر به المتحف من مقتنيات ثمينة. ولكن لا بأس بما جاء في هذه المقالة من نماذج مشرقة للحضارة الإسلامية العربية، لعلها تدفع الشباب نحو المزيد من معرفة الماضي، وتبث في نفوسهم تقليد السلف في إتقان العمل، والنبوغ فيه، لعل أعمالهم القادمة تصنع حضارة مستقبلية تعادل – أو تفوق – حضارة الماضي.
أقتراحان
وفي ختام هذه المقالة، أتوجه إلى المسئولين - عن متحف الفن الإسلامي في قطر – بأقتراحين: الأول، تنظيم رحلات مدرسة إجبارية منتظمة لطلاب مدارس قطر طوال العام الدراسي، بحيث نضمن أن كل طالب في مدارس قطر قد زار هذا المتحف، ورأى عظمة الأجداد، فنحقق بذلك الأهداف التربوية المتوخاة، حيث إن الطالب سيتعرف على المعلومات الخاصة بمقتنيات المتحف فيحقق بذلك الهدف المعرفي، كما أنه سيعتز بماضيه ويفخر بأسلافه؛ فيحقق الهدف الوجداني، وربما تدفعه الحمية والحماسة لتقليد عظمة الأسلاف مستقبلاً، فيحقق الهدف المهاري. والسبب وراء هذا الاقتراح أنني زرت هذا المتحف أربع مرات في أسبوع واحد، فلاحظت أن 90% من زائريه كانوا من الأجانب المقيمين في قطر.
أما الأقتراح الآخر، فيتمثل في إقامة مؤتمر علمي سنوي، يقوم فيه الباحثون المتخصصون بدراسة مقتنيات هذا المتحف دراسة علمية؛ تُضيف إليها معارف جديدة، ونتائج أخرى يُستفاد منها في إثراء المتحف ومقتنياته. والذي دفعني إلى هذا الاقتراح؛ أنني لاحظت أن كماً كبيراً من مقتنيات المتحف يحتاج إلى دراسة وتحقيق وتدقيق. فعلى سبيل المثال: لاحظت عدداً كبيراً من المقتنيات لم تُحدد مواطنها، أو تواريخها! وكُتب على بطاقات تعريف هذه القطع (مصر أو سورية، مصر أو تونس، مصر أو صقلية، إيران أو العراق، إيران أو آسيا الصغرى .. إلخ). ومثال آخر يتمثل في وجود قطعة مكتوب عليها (سلطانية ذات قاعدة) من أفغانستان في أوائل القرن الثالث عشر الميلادي، ثم قطعة أخرى – في مكان آخر - مكتوب عليها (إبريق) من أفغانستان بين أواخر القرن الثاني عشر وأوائل القرن الثالث عشر الميلادي .. ومن يعمل نظره بدقة في القطعتين؛ سيلاحظ تطابقهما في الخامة والنقش والتكفيت والرسم والأشكال، ليستنتج أن القطعة الأولى (السلطانية)، هي قاعدة القطعة الثانية (الإبريق)، ومن مجموعة واحدة. وهذه الملاحظة تكررت في أكثر من قطعة من مقتنيات المتحف.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق