الجمعة، 2 سبتمبر 2011

علي عبد الله الفيّاض جامع التراث القطري ومحققه


علي عبد الله الفيّاض جامع التراث القطري ومحققه
أ.د سيد علي إسماعيل
ـــــــ
مقدمة
قال ابن منظور عن مادة (ورث) في معجمه لسان العرب: " الوِرْثُ والوَرْثُ والإِرْثُ والوِرَاثُ والتُّراثُ واحدٌ .... والوِرْثُ والتُّراثُ والمِيراثُ: ما وُرِثَ، وقيل: الوِرْثُ والمِيراثُ في المالِ، والإِرْثُ في الحَسَبِ .... والتُّراثُ: ما يَخْلُفُهُ الرجل لِوَرَثَتِهِ". وهذا المعنى اللغوي لكلمة التراث، يُوحي بالاتصال بين الأجيال، ووجود الماضي في الحاضر، وقد شرح الدكتور حسن حنفي معنى التراث – في دراسته: تراثنا الفلسفي، مجلة فصول، أكتوبر 1980، ص122 – بقوله: إن التراث "هو المنقول إلينا أولاً، والمفهوم لنا ثانياً، والموجه لسلوكنا ثالثاً. ثلاث حلقات يتحول فيها التراث المكتوب إلى تراث حي، يقوم بالحلقة الأولى الشعور التاريخي، وبالحلقة الثانية الشعور التأملي، وبالحلقة الثالثة الشعور العملي".
وبناءً على ذلك، فإن التراث العربي، هو ذلك المخزون الثقافي المتنوع والمُتوارث من قبل الآباء والأجداد، والمُشتمل على القيم الدينية والتاريخية والحضارية والشعبية، بما فيها من عادات وتقاليد، سواء كانت هذه القيم مدونة في كتب التراث، أو مبثوثة بين سطورها، أو متوارثة أو مُكتسبة بمرور الزمن. وبعبارة أكثر وضوحاً: إن التراث هو روح الماضي وروح الحاضر وروح المستقبل بالنسبة للإنسان الذي يحيا به، وتموت شخصيته وهويته إذا ابتعد عنه، أو فقده. لذلك نرى الإنسان - العربي بصفة خاصة - يتمسك بتراثه بصورة أو بأخرى، سواء في أقواله أو أفعاله.
مركز التراث الخليجي
انطلاقاً من المفهوم السابق للتراث، تأسس مركز التراث الشعبي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية عام 1982م، كمؤسسة إقليمية خليجية مشتركة؛ تنفيذاً لقرار المؤتمر السادس لوزراء الإعلام بدول الخليج العربية، الذي عُقد في مسقط بسلطنة عمان في مارس 1981م، وأُشهر المركز في ديسمبر 1983م، متخذاً من مدينة الدوحة في قطر مقراً له. وقد حقق المركز – طوال عشرين سنة - إنجازات كبيرة في مجال التراث الخليجي، لا سيما الجمع الميداني في مجالاته الأربعة: الأول .. العادات والتقاليد والقيم الاجتماعية، والثاني .. الموسيقى والرقص الشعبي، والثالث .. الثقافة المادية والفنون والحرف، والرابع .. الأدب الشعبي من قصة وموال وحكاية. بالإضافة إلى أرشيف ضخم من الدراسات والأبحاث التراثية الخليجية، ناهيك عن مجلة المركز المشهورة (المأثورات الشعبية). ولسبب ما، قرر وزراء الثقافة في دول مجلس التعاون الخليجي – في اجتماعهم بالكويت، نوفمبر 2004م - إغلاق المركز، الذي نُفذ بالفعل في يولية 2005م.
وعلى الرغم من إغلاق المركز، فكانت له إيجابيات غير مباشرة، تمثلت في ظهور أسماء خليجية لامعة، كانت لها أيادٍ بيضاء على التراث الخليجي: جمعاً، وتحقيقاً، وتوثيقاً، ودراسة. ومن هذه الأسماء في دولة الإمارات العربية على سبيل المثال: أحمد راشد ثاني، وعبد العزيز المسلم، وفالح حنظل، وعبد الله علي الطابور. ومن دولة قطر على سبيل المثال: يوسف عبد الرحمن الخليفي، وعلي عبد الله الفيّاض، وعلي شبيب المناعي، وحمد محسن النعيمي، وحمد حسن الفرحان، ومحمد علي الكواري، وزايد محمد النعيمي، وكايد سعد المهندي، والدكتور ربيعة الكواري. وسنتوقف في مقالتنا هذه عند جامع التراث القطري ومحققه، الباحث علي عبد الله الفيّاض، باعتباره الأغزر إنتاجاً في مجال التراث القطري .. جمعاً وتحقيقاً وتوثيقاً ودراسة.
هدفه في الحياة
هو .. علي عبد الله الفيّاض المقدام الخالدي - نسبة إلى قبيلة بني خالد – المولود سنة 1958م بقرية العريش بمنطقة الشمال في دولة قطر. وقد عاش طفولته وشبابه في أسرة أدبية ذات صلة وثيقة بالتراث الشعبي القطري، فوالده الشاعر الشعبي عبد الله الفيّاض المتوفى سنة 1975م، ووالدته راوية للأشعار، والحكايات، والنوادر، واللطائف. كانت بداية عمله في جمع التراث القطري، رغبته في جمع قصائد والده التي فُقدت منذ زمن بعيد، ورغم ذلك استطاع باحثنا العثور على قصائد قليلة لوالده، حيث دوّن القليل منها أثناء حياته، فكانت هذه القصائد بداية اهتمامه بجمع التراث وتحقيقه. وهذه البداية فجرت في نفسه هدفاً حاول تحقيقه - وما يزال - وهو: البحث والتنقيب عن الآثار الشعرية المجهولة والمفقودة لكبار الشعراء؛ ممن آثروا البقاء في منطقة الظل، فضاع شعرهم وضاعت مكانتهم الشعرية. لذلك قام باحثنا – وما زال يقوم – بالتنقيب عن هذه الآثار التراثية، ومن ثم توثيقها وتحقيقها ودراستها من أجل الحفاظ على تراث الخليج الشعري من ناحية، ومن ناحية أخرى ردّ المكانة الأدبية اللائقة بأصحاب هذا التراث المجهول.
وفي سبيل تحقيق هذا الهدف، كان باحثنا يذهب إلى كبار السن من الشعراء، والرواة في منازلهم، ومجالسهم، ونواديهم من أجل تسجيل الأشعار، والأحاديث، والحكايات، والأخبار، ومن ثم توثيقها، وشرحها، وتحقيقها. بهذا الأسلوب تكونت لدى باحثنا ذخيرة تراثية ضخمة، فأراد نشر بعضها بواسطة الجهات الرسمية، ولكن ظروفاً حالت دون ذلك، فاضطر إلى نشر أعماله الأولى على نفقته الخاصة، مثل كتاب (ديوان الشاعر راشد بن سعد الكواري) سنة 1985م، والجزء الأول من سلسلة كتاب (لآلئ قطرية) سنة 1986م، الذي صدر فيما بعد في أربعة أجزاء. وبالعزيمة، والإصرار، والعمل الدؤوب استطاع باحثنا – طوال عشرين سنة، وما يزال – أن يحقق جزءاً من هدفه العلمي في إنقاذ بعض التراث القطري من الضياع والنسيان، فأخرج لنا خمسة عشر كتاباً تراثياً، بالإضافة إلى مجموعة من البحوث والمقالات المنشورة في مجال التراث القطري.
ومهما كانت عزيمة باحثنا - علي عبد الله الفيّاض – في جمع وتحقيق ودراسة التراث القطري، فإنها عزيمة رجل واحد، يصعب عليه تحمل هذا العبء الثقيل وحده، ولا بد من تكاتف الجهود لتحقيق هدفه النبيل في الحفاظ على تراثنا وهويتنا. هذا الهاجس جعل الباحث ينادي بأعلى صوته في أحد المحافل الثقافية لحث المسئولين الحفاظ على تراثنا من الضياع، والعمل على تجميعه وتحقيقه ودراسته. فقد عقد المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بدولة قطر ندوة بعنوان (التراث الشعبي في دولة قطر)، شارك فيها باحثنا بورقة تحت عنوان (الجهود السنية في جمع المأثورات الشعبية)، طالب فيها المجلس بإنشاء إدارة للتراث تقوم على جمعه، ورعايته، وحفظه، وتوثيقه، وتحقيقه، ونشره.
نشر التراث
يتمثل إنتاج علي عبد الله الفيّاض العلمي في مجال نشر التراث في الكتب الآتية: ديوان الشاعر راشد بن سعد الكواري 1985م، ولآلئ قطرية (أربعة أجزاء: 1986 - 1996م)، وديوان الشاعر إبراهيم بن محمد الخليفي 1988م، ووميض البرق 1990م، وديوان الشيلات القطرية 1991م، وترانيم الفجر 1993م بالاشتراك، والموسوعة القطرية: الجزء الأول 1993م بالاشتراك، ومن أفواه الرواة 1994م، وبدائع الشعر الشعبي القطري 2003م بالاشتراك، ومن رواة التراث في قطر 2004م بالاشتراك، وذاكرة الذخيرة كما يرويها علي بن خميس الحسن المهندي 2005م بالاشتراك، ومحمد بن عبد الوهاب الفيحاني: حياته وشعره وديوانه 2005م بالاشتراك. هذا بالإضافة إلى مجموعة من البحوث التراثية، منها: ماذا عن تاريخ الشعر الشعبي في قطر 1990م، والأديب القطري صالح بن سليمان المانع 2001م، وأثر البحر في الأدب الشعبي في قطر 2004م، وتوظيف التراث في القصيدة الخليجية المعاصرة 2004م، وأعلام من بلادي: الشيخ فالح بن ناصر آل أحمد آل ثاني.
الكتاب الأول
وإذا تتبعنا أعمال علي الفيّاض، سنتوقف عند كتابه الأول (ديوان راشد بن سعد الكواري) المنشور عام 1985م، وفيه قام الباحث بإعطاء نبذة مقتضبة عن الشاعر، ومن ثم نشر أشعاره العامية بعد تقسيمها تقسيماً موضوعياً من خلال: المناسبات الوطنية، والمديح، والمناسبات القومية، والمساجلات، والغزل، والنصائح، والفكاهات، والمناسبات الخاصة، وأخيراً المواويل. ويؤخذ على الباحث مروره السريع على حياة الشاعر في مقدمته الصغيرة، مما يجعل قارئ الكتاب في شغف دائم – أثناء قراءة الأشعار – لمعرفة المزيد عن صاحبها. وفي المقابل يُحسب للباحث حثه الآخرين على دراسة هذا الديوان، كما يُحسب له أيضاً استمراره في تتبع أشعار الكواري وجمعها بعد نشره للديوان، حيث أضاف الكثير من قصائد الشاعر في طبعته الثانية للكتاب عام 1995م. ومن الجدير بالذكر إن علي الفيّاض نظم قصيدة بمناسبة ظهور الديوان – في طبعته الأولى - أرسلها إلى الشاعر الكواري، ومنها هذه الأبيات:
هذاك راشد، ملتقى الضمّر الكوم        رجل كريمٍ ما بنفسه بليـــــــــــدة
من لابةٍ يوم الملاقا لهم ســـــــوم        بارواحهم ترخص تراها زهيـــدة
يا صاحبي أرجي لكم دايم الــدوم        العافية والنفس دايم سعيــــــــــدة
وأيضا بغيت آخبرك وانشر علوم        ديوانكم قد هو طلع في الجريــدة
يابو سعد قصيدكم قد غدا اليــوم        مطبوع في الأسواق كل يريـــده
ويتمثل منهج جامع الديوان، في ذكر مناسبة القصيدة وتاريخ نظهما، مع شرح بعض ألفاظها. وشذ عن هذا النهج قسم الغزل؛ الذي خلا من ذكر مناسبة القصيدة، وتاريخ نظمها؛ مراعاة للعادات والتقاليد العربية. ومن قصائد الديوان الطريفة قصيدة (غنت له شعوب الإمارات)، نظمها الشاعر في مدح الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، رحمه الله، وهي قصيدة طويلة جاء نظمها بترتيب الحروف العربية من الألف إلى الياء، بواقع بيتين لكل حرف. ومثال على ذلك قول الشاعر في حروف الجيم والحاء والخاء:
الجيم جا بالخير دنيا ودينــــي        الحاكم العادل من المسلمينـــي
شيخ عطاه الله صدق اليقينـــي        زايد تزايد للملا بالدلايـــــــــل
الحا حماه الله من كل حسّـــــاد        وأبقاه ذخر للوطن عز وسنـــاد
أبو خليفة ملتقى كل ما كـــــــاد        حامي حمى داره إلى جاه صايل
الخا خسر من لا يسوي سواتـه        اللي فدا شعبه بغالي حياتــــــه
الله يحله في حياته ومماتـــــــه        ويطول عمره للشعب والعوايل
من الجمع إلى التدقيق
وإذا كان علي الفيّاض التزم بأسلوب جمع الأشعار في كتابه الأول – ديوان راشد الكواري - إلا أن هذا الأسلوب تطور في كتابه الثاني (لآلئ قطرية: الجزء الأول 1986م)؛ ليشمل الجمع والتدقيق، بالإضافة إلى ذكر العوامل المشتركة بين الشعراء الذين اهتم باحثنا بجمع أشعارهم، مثل: أنهم شعراء قطريون مولداً ونشأة، وأنهم في عداد الأموات ولم يبق إلا ذكراهم الطيبة، وأنهم مشتركون في المستوى الفني، وأن أغلب قصائدهم مفقودة وغير منشورة. وقد اتبع باحثنا أسلوب الإسناد في النص، وعن هذا الأسلوب قال في مقدمة كتابه: "كنت أتحرى الدقة في الجمع، فإذا كانت هناك روايتان للقصيدة الواحدة المنسوبة لشاعر معين، أحدهما رواها قريب من أقارب الشاعر، والأخرى لراوٍ بعيد. فإنني آخذ برواية القريب لأنه بالطبع أدرى بأحوال الشاعر وشعره. كما أنه في الغالب سمع القصيدة من الشاعر نفسه. أما البعيد فربما يكون قد سمعها من راوٍ آخر. وكذلك بالنسبة للمعلومات المتصلة بحياة الشاعر؛ فإنني أستقيها من أبناء الشاعر أو أقرب قريب له".
وبهذا الأسلوب استطاع باحثنا جمع – أغلب – الأشعار الخاصة بالشعراء: راشد بن حسين الكبيسي، وسبت بو شرود السليطي، وسعد بن راشد الكواري، وسعيد بن عامر الكعبي، وعبد الرحمن بن مبارك الكواري، وعبد الرحمن بن محمد الملا الكبيسي، وعبد الله بن أحمد الفيّاض (والد الباحث)، وعبد الله بن راشد الكبيسي، وعبد الله بن راشد المناعي، وعبد الله بن محمد الفيّاض، وعلي بن جهام الكبيسي، وعلي بن محمد السيد، وعيسى بن محمد الرميحي، ومبارك بن سعد المهندي.
من التدقيق إلى النقد
ثم ينتقل باحثنا - علي الفيّاض - من مرحلة الجمع والتدقيق إلى مرحلة النقد الانطباعي في كتابه (ديوان الخَليفي) المطبوع عام 1988م، لنجده يذكر انطباعات تحليلية في صورة إرهاصات نقدية تتعلق بمعارضات الخليفي الشعرية، وخياله الشعري، وأسلوبه المشابه لشعر الإمارات ذي الأوزان الخفيفة الراقصة. كما تحدث الفيّاض عن أثر البحر في قصائد الخليفي؛ المتمثل في شيوع المصطلحات البحرية في أشعاره الغزلية. والباحث وزع قصائد الخليفي موضوعياً، بصورة مشابهة لتقسيم قصائد راشد الكواري، من حيث: الحكم والنصائح والتأمل، والوطنيات والقوميات، والمديح، والغزل، والمساجلات والأخوانيات، والمواويل والألغاز.
من النقد إلى الدراسة
وفي كتابه (وميض البرق) المطبوع عام 1993م، ينتقل الفيّاض من مرحلة النقد الانطباعي إلى مرحلة الدراسة المصاحبة للجمع والتوثيق والتدقيق، حيث بدأ كتابه بدراسة أولية عن الشعر القطري بعنوان (نبذة عن تاريخ الشعر والشعراء في قطر). وفي هذه الدراسة التاريخية؛ تتبع الفيّاض ظهور الشعر القطري ابتداءً من الشاعر قطري بن الفجاءة، وعبد الجليل الطباطبائي حتى ظهور شعراء قطر المحدثين. وبهذه الدراسة استطاع الفيّاض أن يمهد لعمله الأساسي في الكتاب، وهو جمع وتوثيق وتدقيق قصائد شعراء الفصحى في قطر، أمثال: ماجد بن صالح الخليفي، وعبد الرحمن الدرهم، ومحمد بن حسن المرزوقي، وأحمد بن يوسف الجابر، والشيخ علي بن سعود آل ثاني، وعبد الرحمن المناعي، ومبارك بن سيف آل ثاني، ومحمد أحمد عبد الله المطوع .. وغيرهم. كما أورد مجموعة من قصائد الشاعرات القطريات، أمثال: د.زكية مال الله، وحصة العوضي.
والملاحظ أن تراث الشعر الشعبي القطري هو المجال المُحبب لدى علي الفيّاض، ولعله رغب في التنوع عندما أخرج كتابه (وميض البرق) الخاص بتراث الشعر القطري الفصيح. وهذا التنوع صاحبه أيضاً في كتابه (من أفواه الرواة) المطبوع عام 1994م، حيث خصصه لجمع التراث الشفاهي القطري في مجالات عديدة، منها: الحكايات، والقصص، والطرائف، والأمثال، والأغاني، والألغاز، والرقص .. إلخ هذه الفنون الشعبية الشفاهية. وهذا الكتاب – بصفة خاصة – يُمثل تطوراً في منهج تناول الفيّاض للتراث القطري، حيث لم يكتفِ بالجمع والتوثيق والتدقيق، بل كان يُدلي بآرائه وانطباعاته الصائبة في كثير من الأحيان، ويعطي كذلك دلالات نقدية تفتح آفاق الفكر أمام القارئ. فعلى سبيل المثال حكاية (غيلان وميّ) الشعبية، بعد أن يذكر الفيّاض قصتها؛ نجده يقول: " هذه قصة اختراع الشراع كما يرويها الرواة في قطر، ولا ندري إن كانت حقيقية أم أسطورة، وما يهمنا فيها هي دلالتها على قدرة الإنسان القطري وشجاعته وذكائه ومعرفته بالبحر وفنونه ومجاربه، وتعلق معيشته به منذ أقدم الأزمنة ".
تطور المنهج
ذكرنا فيما سبق إن للفيّاض كُتباً منشورة بالاشتراك. وهذا الاشتراك تمثل في شخصية الأستاذ علي شبيب المناعي، الذي شارك باحثنا في بعض إنتاجه التراثي. والمناعي هو صديق الفيّاض منذ أيام الدراسة، وهذه الصداقة توثقت أواصرها بميلهما إلى التراث، وحبهما له. وارتباط الفيّاض بالمناعي أفاده – بلا شك – في تطور منهجه التراثي. ففي كتابهما (بدائع الشعر الشعبي القطري) المنشور سنة 2003م، نلحظ تطوراً في أسلوب الفيّاض في الجمع والتوثيق، حيث اشتمل الكتاب على مجموعة كبيرة من الأشعار الشعبية - لكوكبة من شعراء قطر - تمّ اختيارها وفق الذوق الشخصي للجامعَين؛ فقالا عن هذا الأمر في مقدمة كتابهما: "لم نقصر الاختيار على ناحية معينة أو موضوع شعري معين، بل أن المعيار يقع على القصيدة بحد ذاتها، على أن تكون في سياق المعيار الفني والأدبي الذي يعتمد على الذائقة الشخصية". وهذا القول يعني أن التذوق هو العامل الحاسم في اختيار القصائد. والمعروف أن التذوق الشعري هو مرحلة متقدمة، تأتي من خلال تملك الإنسان للتقنيات الضرورية اللازمة لتقييم المعاني الشعرية، والحُكم على ابتكارها، وهو المستوى الذي وصل إليه الفيّاض والمناعي في هذه المرحلة.
وهذا المستوى الفني؛ نجد أثره أيضاً في كتابهما (ذاكرة الذخيرة) المطبوع سنة 2005م، حيث وقع اختيارهما على أحد الرواة، وهو علي بن خميس الحسن المهندي، باعتباره نموذجاً فريداً لرواة التراث القطري المعاصرين؛ حيث يختزن هذا الراوي في ذاكرته تراثاً شفاهياً ضخماً، كان يردده الآباء والأجداد منذ زمن بعيد. فالكتاب يحمل ذكريات الراوي مع البحر والغوص على اللؤلؤ، وذكرياته مع البرّ، وذكرياته عن قريتي الجميل والذخيرة، وذكرياته مع بعض الحُكام والأعلام والمشاهير، وذكرياته مع أماكن قرية الذخيرة ومواقعها. بالإضافة إلى محفوظات الراوي من القصائد والأغاني الشعبية، والمواويل.
كتاب الفيحاني
ويُعتبر كتاب (محمد بن عبد الوهاب الفيحاني 1907 - 1939م) المنشور عام 2005م، قمة الإنتاج التراثي للفيّاض والمناعي. فهذا الكتاب – وهو آخر إنتاجهما حتى الآن – نموذجاً عملياً لتضافر الجهود الرسمية والشخصية من أجل الحفاظ على التراث الشعري القطري. فعندما أراد المسؤولون في المجلس الوطني للثقافة والفنون والتراث بدولة قطر، إقامة التكريم اللائق للفيحاني ضمن مهرجان الدوحة الثقافة الرابع، لم يجدوا خير معين على هذا التكريم إلا تكليف الفيّاض والمناعي بإصدار طبعة جديدة لديوان الفيحاني. فقاما الباحثان بعملهما خير قيام، رغم قلة المصادر ووفاة المعاصرين للفيحاني، وأغلب رواة أشعاره، ناهيك عن أقرب الأقربين له. لذلك سلك الباحثان طرقاً وأودية وشعاب وعرة، لا سبيل لخوضها إلا بالصبر والمثابرة والجهد الجهيد.
ولم يكتفِ الباحثان بإعادة إصدار الديوان، بل قاما بتحقيقه وتوثيقه وشرح مفرداته، وإضافة قصائد مجهولة لم تُدرج في الديوان الأصلي، مثل: ألا يا ولد جاسم، ويا سعد، ويا فريد الزين. ومن طرائف هذا الكتاب اشتماله على صورة مُتخيلة للفيحاني وهو في سن الثلاثين، قام بتخيلها الفنان إسماعيل عزام، معتمداً في رسمها على صورة للشاعر وهو في الثالثة عشر من عمره، مع مضاهاتها بصور لولده ولأخوانه. بالإضافة إلى احتواء الكتاب على نماذج نادرة لمخطوطات الشاعر بخط يده. وقد تُوج هذا العمل بوجود سيرة الشاعر شبه الكاملة في بداية الكتاب، ليصبح – هذا الكتاب - مرجعاً مهماً أساسياً لأية دراسة تُكتب عن الفيحاني مستقبلاً.
وكتاب الفيحاني بطبعته الفاخرة - وبما فيه من مجهود علمي، ومثابرة على العمل، ووفاء للتراث - يُعد نموذجاً عملياً على تكاتف جهود الدولة مع الباحثين من أجل الحفاظ على التراث القطري. وهنا يبرز السؤال المُلح، الذي يقول: ماذا لو أعادت دولة قطر هذه التجربة مع باحثين آخرين في مجال التراث القطري بأشكاله المختلفة: الشعر، والأغاني، والحكايات، والقصص، والمواويل، والألعاب ... إلخ؟ وماذا لو سارت كل دولة خليجية على هذا المنوال؟ ألا يُعتبر هذا الأسلوب هو الأسلوب الأمثل لجمع تراثنا الشعبي المفقود، من أجل تجميعه والحفاظ عليه للأجيال القادمة، حفاظاً على تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا وسط هجمة التغريب والفرنجة التي تجتاح العالم العربي والإسلامي؟! ألم يحن الوقت للتفكير في إعادة مركز التراث الشعبي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية مرة أخرى؟ ... مجرد رأي!!
الموضوع الأصلي من موقعي الشخصي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق