كتاب الأسرار إسهام تراثي لهيئة المتاحف القطرية
د.سيد علي إسماعيل
ــــــــ
" بفضل رعاية سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير دولة قطر، وحرمه سمو الشيخة موزة بنت ناصر المسند يرى هذا العمل النور؛ حيث قام سموهما بتمويل هذا المشروع والبحث العلمي بأكمله" .. بهذه الكلمات قدّم فريق عمل من الأجانب – بمساعدة بعض العرب - أحدث تحقيق ونشر لمخطوطة عربية إسلامية مكتشفة، تُضاف إلى تاريخ الحضارة الإسلامية في مجال الهندسة الميكانيكية، وهي مخطوطة (كتاب الأسرار في نتائج الأفكار) للعالم المهندس المسلم الأندلسي أحمد بن خلف المرادي، الذي كتبها في قرطبة في ظل الحكم الإسلامي للأندلس. وهذه المخطوطة ظلت قروناً طويلة سجينة بفلورنسا في مكتبة (ميديشيا لورينسيانا Biblioteca Medicea Laurenziana)، حتى أشار إليها عاشق تراث الهندسة الميكانيكية الإسلامية الدكتور دونالد هيل (Donald Hill) في أحد بحوثه؛ مما أدي بفريق العمل إلى اكتشافها؛ ومن ثم تحقيقها ونشرها في كتاب أنيق للغاية – بفضل هيئة المتاحف القطرية - في أكتوبر 2008م.
كتب الحيل في الحضارة الإسلامية
قبل اكتشاف مخطوطة هذا الكتاب؛ أجمع العلماء من العرب والمسلمين والغربيين – القدامى منهم والمحدثين – أن أهم الكتب التي وصلت إلينا، المتعلقة بتراث العرب والمسلمين في مجال الهندسة الميكانيكية - أو التكنولوجية أو التقنية – ثلاثة كتب: الأول (كتاب الحيل) لبني موسى بن شاكر من القرن التاسع الميلادي، والثاني (الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل) لأبي العز بن إسماعيل الجزري من القرن الثاني عشر الميلادي، والأخير (كتاب الطرق السنية في الآلات الروحانية) لتقي الدين محمد بن معروف من القرن السادس عشر الميلادي. وهذه الكتب الثلاثة، يعود الفضل في تحقيقها ونشرها باللغة العربية إلى الدكتور أحمد يوسف الحسن بمعهد التراث العلمي العربي بجامعة حلب، حيث نشر كتاب الحيل عام 1981م، وكتاب صناعة الحيل للجزري عام 1979م، وكتاب الآلات الروحانية عام 1976م.
وقد ذكر المحقق - الدكتور أحمد يوسف الحسن - عبارة مهمة عن هذه الكتب الثلاثة – في مقدمة تحقيقه لكتاب الحيل ص57 - قال فيها: " ... وبذلك أصبحت هذه الكتب الثلاثة التي تعود إلى عهود متباعدة .... تشكل الحلقات الرئيسية في سلسلة من التقاليد الهندسية الميكانيكية العربية، وهي تلقي ضوءاً على إنجازات الحضارة العربية الإسلامية في هذا المجال. ولسوف تكتمل حلقات هذه السلسلة باكتشاف ونشر كتب ومخطوطات جديدة في هذا العلم". وفي نهاية هذه العبارة، وضع المحقق هامشاً قال فيه: " نشر هيل في مجلة تاريخ العلوم العربية مقالاً عن كتاب أندلسي للمرادي يعود إلى القرن الخامس الهجري (الحادي عشر الميلادي)". وهذا الكتاب الأندلسي، ما هو إلا كتاب الأسرار في نتائج الأفكار – موضوع مقالتنا – أي أن كتاب الأسرار هو الضلع الرابع المتمم لمربع تراث الهندسة الميكانيكية الإسلامية بشهادة المتخصصين!
وعلى الرغم من اهتمام العرب بنشر هذه الكتب، إلا أن الغربيين سبقوهم في هذا الأمر! فكتاب (الحيل) لبني موسى نشره فيديمان (Wiedmann) وهاوسر (Hawser) باللغة الألمانية في عشرينيات القرن العشرين، ونشره كذلك باللغة الإنجليزية الدكتور دونالد هيل عام 1979م، قبل أن يُنشر بالعربية عام 1981م. وكتاب الجزري نشره أيضاً الدكتور دونالد هيل بالإنجليزية عام 1974م - ونال عليه جائزة دولية - قبل أن يُنشر بالعربية عام 1979م. ولأهمية هذه الكتب لما نحن بصدده، سنتحدث باختصار عنها؛ حتى نُمهد للكتاب الرابع، الذي سيُضاف إلى هذه الزخيرة التراثية، وهو كتاب الأسرار في نتائج الأفكار.
ألف بني موسى – وهم الأخوة محمد وأحمد والحسن – (كتاب الحيل) في القرن التاسع الميلادي في عصر المأمون بن هارون الرشيد، الذي تكفل بتربيتهم ورعايتهم مادياً وعلمياً؛ مما جعلهم يبرزون في مجال الاختراعات والهندسة الميكانيكية. وإذا كان كتاب الحيل هو أشهر أعمالهم التأليفية، إلا أن لهم مؤلفات أخرى كثيرة – ذكرها ابن النديم في فهرسه - منها: كتاب القرسطون، وكتاب الشكل المدور المستطيل، وكتاب حركة الأفلاك، وكتاب المخروطات. وقد أشادت كتب التراث بأعمال بني موسى؛ حيث قال عنهم ابن خلكان في كتابه (وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان): "ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة، ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها". وقال القفطي في كتابه (أخبار العلماء): " موسى بن شاكر مقدم فِي علم الهندسة هو وبنوه محمد بن موسى وأحمد أخوه والحسن أخوهما، وكانوا جميعاً متقدمين فِي النوع الرياضي وهيئة الأفلاك وحركات النجوم وَكَانَ موسى بن شاكر هَذَا مشهوراً فِي منجمي المأمون، وَكَانَ بنوه الثلاثة أبصر الناس بالهندسة وعلم الحيل، ولهم فِي ذَلِكَ تآليف عجيبة تُعرف بحيل بني موسى، وهي شريفة الأغراض عظيمة الفائدة مشهورة عند الناس".
وكتاب الحيل يشتمل على مائة اختراع هندسي، منها على سبيل المثال: كأس يُصب فيه مقدار من الشراب أو الماء، فإن زيد عليه زيادة بقدر مثقال خرج كل شيء فيه. وإبريق له بلبلة إذا مُلئ لا يمكن أن يتوضأ به أكثر من واحد. وقنينة ذات رأس واحد يُصب فيها الشراب والماء من هذه الرأس فلا يختلطان، وإذا أراد الإنسان أن يقلبها فيخرج من رأسها شراب فقط، ثم يقلبها مرة أخرى فيخرج منها ماء فقط، ثم يقلبها فيخرج منها مزيج من الشراب والماء. وسراج يُخرج الفتيلة لنفسه، ويصب الزيت لنفسه، وكل من يراه يظن أن النار لا تأكل من الفتيلة أو الزيت شيئاً. وسراج آخر إذا وُضع في الريح العاصف لا ينطفئ. وتمثال منصوب في الحائط يصب الماء بارداً أو ساخناً تبعاً لما يريد صاحبه .. إلخ هذه المخترعات التي نجد شواهدها المتطورة في حياتنا اليومية الآن. فبعض النماذج السابقة ما هي إلى أشكال من الصنابير (الحنفيات) المستخدمة حالياً في بعض أماكن الوضوء في المساجد، وفي دورات المياة لبعض الفنادق، تلك الصنابير التي تصب الماء فور وضع يدك أسفل فوهتها، ثم ينقطع الصب بعد ابتعاد اليد عن الفوهة. أو تلك الصنابير ذات اليد العلوية، وعندما يحرك الإنسان اليد إلى اليمين يُصب الماء الساخن، وإلى اليسار يُصب الماء البارد، وفي المنتصف لأعلى يُصب الماء مزيجاً من الساخن والبارد.
ومن الثابت تاريخياً؛ أن أفكار كتاب الحيل كانت مطبقة بصورة عملية قديماً، حيث ذكر الصفدي في كتابيه (أعيان النصر وأعوان النصر)، و(الوافي بالوفيات) ترجمة لمحمد بن مختار الفقيه، قال فيها: " كان جيد الذهن، يعرف الهندسة جيداً، وله يد طولى في الهيئة والحساب، وكان في الأصل صائغاً، فتسلط بالصياغة على معرفة كتاب الحيل لبني موسى وكان يصنع بيده أشياء غريبة ويقدّمها للأمير سيف الدين الناصري، فراج عنده بذلك".
أما كتاب (الجامع بين العلم والعمل النافع في صناعة الحيل)، فقد ألفه رئيس المهندسين بديع الزمان أبو العز بن إسماعيل بن الرزاز الجزري عام 1206م - القرن الثاني عشر الميلادي - بناءً على طلب حاكم ديار بكر الملك الصالح ناصر الدين أبي الفتح محمود بن محمد بن قرا أرسلان بن داود بن سكمان بن أرتق. وقد سمي المؤلف بالجزري، لأنه من أبناء الجزيرة التي تقع بين دجلة والفرات. وفي الكتاب نجد وصفاً دقيقاً لعدد من الآلات الميكانيكية المختلفة منها: الضاغطة، والرافعة، والناقلة، والمحركة. كما أن المؤلف وصف بالتفصيل تركيب الساعات الدقيقة التي أخذت اسمها من الشكل الخاص الذي يظهر فوقها؛ فنجد: ساعة القرد، وساعة الفيل، وساعة الرامي البارع، وساعة الكاتب، وساعة الطبال. كذلك نجد وصفاً لآلات القياس، والنافورات، والآلات الموسيقية، وآلات رفع المياه، والأقفال، والأبواب .. إلخ هذه الأمور.
وقد أشاد الغربيون بهذا الكتاب، فسارتون (Sarton) قال عنه: "هذا الكتاب أكثر الأعمال تفصيلاً من نوعه، ويمكن اعتباره الذروة في هذا المجال بين الإنجازات الإسلامية". أما دونالد هيل – مترجم الكتاب إلى الإنجليزية – فقال: "لم تكن بين أيدينا حتى العصور الحديثة أية وثيقة، من أية حضارة أخرى في العالم، فيها ما يضاهي ما في كتاب الجزري من غنى في التصاميم وفي الشروحات الهندسية المتعلقة بطرق الصنع وتجميع الآلات".
أما الكتاب الثالث والأخير (كتاب الطرق السنية في الآلات الروحانية)، فقد ألفه القاضي تقي الدين محمد بن معروف عام 1551م – في القرن السادس عشر الميلادي – بأستنبول، التي بنى بها آخر المراصد الإسلامية عام 1577م. وعلى الرغم من أن ابن معروف سار في كتابه على نهج كتابي بني موسى والجزري، إلا أنه أضاف وصفاً لآلات استحدثت في زمنه، ولم يرد لها ذكر في الكتب السابقة. ومن أهم موضوعات كتاب الآلات الروحانية (البنكامات)، وهي أنواع مختلفة من الساعات المائية والرملية، و(آلات جرّ الأثقال) التي تعمل بالدواليب والبكرات، وآلات رفع الماء، والفوارات ... إلخ. وللمؤلف ابن معروف مؤلفات أخرى، منها: رسالة في علم البنكامات، وريحانة الروح في رسم الساعات على مستوى السطوح، والمصابيح المزهرة، وخلاصة الأعمال في مواقيت الأيام والليالي.
ومما سبق يتضح لنا أن مصطلح (الحيل) في الحضارة الإسلامية، هو مصطلح (الميكانيكا) عند الغربيين. وقد اهتم المسلمون والعرب بالحيل النافعة من أجل الحصول على فعل كبير ونتائج ضخمة بواسطة الجهد اليسير، أي استعمال الحيلة بدلاً من القوة، واستخدام رجاحة العقل بدلاً من إرهاق الجسم.
مخطوطة كتاب الأسرار
مخطوطة (كتاب الأسرار في نتائج الأفكار) - التي أسهمت هيئة المتاحف القطرية، برعاية سمو أمير قطر وحرمه المصون في تحقيقها ونشرها – يعود تاريخ نسخها إلى عام 1266م - القرن الثالث عشر الميلادي - ونسخت بالخط المغربي في طليطلة في بلاط الملك ألفونسو العاشر. والجدير بالذكر أن المخطوطة بها عدة أخطاء نحوية، ولغوية، وتبديل في الأشكال؛ حيث رُسمت بعض الأشكال مكان أخرى. هذا بالإضافة إلى عدم وجود علامات ترقيم إلا في القليل النادر، مما يرجح أنها نسخت في غياب مؤلفها الأصلي المرادي، أو أنه لم يراجعها بعد نسخها. وفي إحدى مقدمات تحقيق ونشر المخطوطة – تحت عنوان (التكنولوجيا القديمة ومخطوطة المرادي)، أخبرتنا ماسيميليانو ليزا (Massimiliano Lisa) قصة انتقال مخطوطة الكتاب من أسبانيا إلى إيطاليا، ووضعت احتمالاً بأنها انتقلت بالطريقة نفسها التي انتقلت بها معظم المخطوطات العربية إلى أوروبا قديماً عن طريق الشراء من هواة جامعي الكتب أمثال نعمة الله أصفر بطريرك أنطاكية.
وأهمية كتاب الأسرار تكمن في رسوماته وأشكاله الهندسية معقدة التركيب، والتي لم يتم تفسيرها أو شرحها من قبل، وتنقسم آلات الكتاب إلى: الساعات المائية، والصناديق أو المسارح الميكانيكية، والآلات العسكرية، والآبار السحرية، والمزاول أو الساعات الشمسية. لذلك نجد الكتاب يحمل وصفاً لأكثر من ثلاثين شكلاً أو اختراعاً هندسياً، منها: قصة الحب والحيات الخبيثة، والأعمى والكلب، والمعركة، وساعة بأربعة وعشرين باباً وأسدين، وساعة شمسية بطاقة المياه، وساعة المرايا، وساعة بفتاة ورجل يحمل أسطرلاباً، وساعة الحصوات، والعنقاء الميكانيكية، والبرج الميكانيكي، وهادم الحصون، ورقصة الأضواء الليلية ... إلخ.
وقد واجهت مشاكل عديدة فريق العمل في تعاملهم مع المخطوطة – كما جاء في مقدمات الكتاب – منها: رداءة الأوراق وبخاصة حوافها العلوية، والرطوبة التي أتلفت جزءاً كبيرا من النص والرسومات؛ لذلك قام الفريق بسد النقص بكلمات مناسبة تبعاً لمنهج محدد في التأويل والتخمين لا يسلم – هذا المنهج - من احتمالات الخطأ وتعدد التأويلات. يضاف إلى ذلك أن المخطوطة نسخة من الأصل، وأن ناسخها لم يكن على دراية كافية بالجوانب التقنية لمحتويات المخطوطة، واقتصرت مهمته على نسخ النص ورسم الأشكال.
وقد تغلب فريق العمل على هذه المشكلات بفضل التكنولوجيا الحديثة من خلال التمثيل ثلاثي الأبعاد بواسطة الحاسوب، وبذلك استطاع الفريق معرفة ما هو ممكن عملياً، وقام بتنفيذ بعض الأشكال ألكترونياً في صورة مجسمات. وهذه المجسمات لم تكن التنفيذ الأول، أو التطبيق العملي لمخترعات الكتاب، حيث قام أحد أفراد فريق العمل بطرح هذا السؤال في المقدمة، ومن ثم أجاب عنه قائلاً: " هل كل هذه الآلات ممكنة الصنع بالفعل؟ أعتقد أن تصدير المخطوطة نفسه يرد بالإيجاب على هذا السؤال، فالمؤلف يتحدث عن الأشكال التي تضمها المخطوطة باعتبارها آلات يمكن تشغيلها حتى تؤدي الوظائف المنوطة بها، وهو ما يؤكد وجهة نظري بحتمية رؤية المرادي نفسه لهذه الآلات سواء في صورتها النهائية أو المبدئية".
هادم الحصون
ربما قراءة مقدمة كتاب الأسرار، كما كتبها المرادي - وكما تصورها فريق العمل، بعد تحقيقها ووضع الكلمات المناسبة في الأجزاء الممزقة والمطموسة - تعطي القارئ صورة جلية عن فكرة الكتاب كما طرحها المؤلف، وتعكس الجهد المبذول في تحقيق المخطوطة، وأسلوب تأويل الأجزاء الناقصة، رغم التزام المحققين بإثبات أخطاء المؤلف النحوية واللغوية وعدم رسم علامات الترقيم!! تقول المقدمة:
"[بسم الله الرحمن الرحيم] والحمد لله وحده وبه استعين [هذا] كتاب الاسرار [في نتايج] الافكار [كتب ... احمد] بن خلف المرادي الى بعض اخوانه واصفيائه من [أهل زمانه. ارجو لك نعمة اللـ]ـه يا اخي بتقواه ووفقك الى ما يحبه ويرضاه [وبعد يا أخي ...] لما رايت علم الهندسة قد دثر واثره قد غبر [... اقتضيت] فكري واخليت سري في اشكال فيلسوفيه [فتدبرت اخرا]جها من العدم الى الوجود ومن الخمول الى الصعود [... ورتبت] بعضها بعضا مفسرة ابوابها مرسومة اشكالها [وفسرتها بطريقة] يسهل عملها على الصانع اللبيب وهي احد وثلثون [شكلا خالية من الـ]ـزيغ والتحريف والخطأ والتصحيف منها خمسة اشكال [مجسمة وثمـ]ـانية وعشرون شكلا منها ليعرف بها الساعات [واحد منها لمعرفة] الكواكب العلوية ومنها اربعة اشغال كريية غريبة [... ومنها شكـ]ـلين وضعهما غيري ممن تقدم ففسرتهما وركبت [من التركيب ما] يلزم فلتنظرها يا اخي نظر عالم ماهر وتدبرها تدبير [صانع لبيب مـ]ـاهر فانك ترى عجايب افعالها وغوامض اسرارها فاسل الله ان يوفقنا [واياك] الى طاعته ومرضاته وان يقينا واياك من الدهر ما نحذره ونخشاه من [النهاية] والسلام عليك مني يا اخي ورحمة الله وبركاته".
وإذا كانت مقدمة كتاب الأسرار واضحة، ومقبولة التأويل في أجزائها الناقصة، أو كلماتها غير الواضحة، فإن تحقيق نص الكتاب في وصف المخترعات والأشكال، هو المحك الحقيقي والدليل الدامغ على الجهد الكبير المبذول في تحقيق المخطوطة، وتأويل أجزائها المفقودة من قبل فريق العمل. ومثال على ذلك الجهد، نورد هنا نصاً من الكتاب المحقق، يُمثل الشكل الثالث والعشرين، المعروف بـ(هادم الحصون)، لأن هذا الشكل على وجه التحديد تم تنفيذه في مجسم رائع، محفوظ في متحف الفن الإسلامي في دولة قطر، كما سيأتي ذكره.
"[نريد ان نعمل برجا ويكون نهيسا] في راس هذا البرج تكون في راس النهيس [... ليهدم به] راس سور او راس برج فلنركب على الاشكال [المذكورة الموثوقة بأ]عمدة حـ اربعة اشكال معرضة عليها لكي يمسك [بها فلا تميل] الى جهة من الجهات وتكون الاشكال مركبة قبالة [...] نركب على هذه الاشكال المذكورة وعلى كل شكلين مقصا [طول كل مقص] اثنى عشر شبرا وتكون الامقاص مهوجلة موزونة موثوقة [لا تميل إلى جهة من] الجهات قليلا ولا كثيرا ثم نعمل نهيسا يكون طوله ثلثون [ذرراعا او] اكثر من ذلك على حسب امكان العمود ويكون نظره [...] امكن ويكون معتدلا دون تعويج ونركب في راسه [...] ويكون ثقلها نصف قنطار ثم نربط حبلين وثيقين في نصف [النهيس مما] يقابل الامقاص ويكون بين حبل وثاني ما بين مقص ومقص ثم [...] من روس الامقاص حتى تكون عواما ويكون بينه وبين [الامقاص] احدى عشر شبرا ثم نركب الى جنبي النهيس وعلى الشكل [الذي] عليه علامة ح ح بكرتين ثم نوثق حبلين عند نقطة خ في النهيس مما يلي مقدمه ثم نمد الحبلين الى البكرتين فتنعطف اسفلها الى اسفل الفرش الذي في اول الشكل وفيه تكون الرجالة الذين [يمدون] الشرايط فيجبذون الحبل بقوة في فور واحد ثم يرسلونها فعند ذلك يرجع النهيس بسرعة شديدة فيهدم ما يقابله ثم ينقل الى مكان اخر فيفعل به كذلك ويكون عملنا في اشكاله على ما تقدم قبل هذا من اشكال برجه وذلك ما اردنا ان نعمل ان شاء الله تعالى. وهذه صورته".
وعلى الرغم من جهد فريق العمل في تحقيق هذا الشكل، إلا أن خطورة التحقيق تتمثل في تأويل بعض الأجزاء الناقصة، ووضع كلمات بديلة محتملة؛ لأن التحقيق ربما يُهدم من أساسه في حالة ظهور نسخ أخرى من هذه المخطوطة، أو ظهور النسخة الأصلية! حيث إن المخطوطة المحققة هي النسخة الوحيدة المكتشفة حتى الآن! ولنا أن نتصور مثلاً العبارة الأولى الموجودة في تحقيق هذا الشكل، وهي: [نريد أن نعمل برجاً ويكون نهيساً]، ووضعها بين قوسين معقوفين دلالة على أنها عبارة محتملة ومؤولة من قبل فريق التحقيق، ولم يكتبها المؤلف! فما الموقف إذا ظهرت نسخة أخرى للمخطوطة، ووجدنا فيها كلمة بدلاً من كلمة (برج)، أليست هذه الكلمة الجديدة المحتملة تهدم الشكل من أساسه؟! وهذا الأمر من الممكن تطبيقه على جميع العبارات المؤولة أو المحتملة، بل ويمكن تطبيق هذا التصور على جميع أشكال الكتاب! وهذا الأمر يُعد مزلقاً من مزالق تحقيق هذا الكتاب رغم أهميته الفنية والتاريخية.
صراع الحضارات
من يتصفح كتاب الأسرار في نسخته المحققة، يتضح له وبجلاء أن فريق العمل أغلبه من المتخصصين الأجانب ممن لهم خبرة ودراية في مجال الميكانيكا وتاريخها. وثلاثة من هؤلاء المتخصصين كتبوا مقدمة تحقيق الكتاب، مع مقالتين تُعدان مقدمتين إضافيتين للمقدمة الأساسية. ومن يقرأ هذه المقدمات، ويُمعن النظر في سطورها - وما بين سطورها - يشعر بأن الفريق يستكثر على علماء العرب والمسلمين أثرهم الواضح والتاريخي في مجال الهندسة الميكانيكية! حيث إنهم يشككون في أن اختراعات كتاب الأسرار من بنات أفكار المرادي، أو أن المرادي ألف هذا الكتاب بهذه الصورة الفنية الرائعة، محاولين - بكل السُبل - تقليل شأن العرب والمسلمين في تاريخ تراث الهندسة الميكانيكية!
ففي مقدمة الكتاب، نجد الإشادة بمدينة الإسكندرية في مصر، بوصفها " المركز الحضاري الذي تحققت فيه معظم اكتشافات العصر القديم". وربما يظن القارئ أن هذه الإشادة في صالح العرب والمسلمين باعتبار الإسكندرية مدينة عربية، ولكنه يُفاجئ بأن الإشادة بهذه المدينة تحددت بالفترة بين القرنين الرابع قبل الميلاد والرابع الميلادي "حيث عاش الكثير من المخترعين مثل كتيسيبيوس (285-222 ق.م) الذي يعتبر أبا علم الهوائيات، وهيرون (10-75م) المهندس الذي ينسب إليه اختراع عدد كبير من المضخات والساعات المائية. كما كُتب بالإسكندرية عدد من الرسائل والكتب الهامة مثل رسالة (الهوائيات) لفيلون البيزنطي (220-280 ق.م)، والذي تتلمذ على يدي كتيسيبيوس وصار من أتباعه، ورسالة (الميكانيكا) لهيرون، ورسالة أرشميدس (في عمل الساعات المائية)".
أي أن الإشادة كانت موجهة إلى الإسكندرية في العهد الروماني؛ عندما كان بها العلماء الرومانيين الأوائل!! أما مؤلفات هؤلاء الرومانيين في الهوائيات والميكانيكا والمضخات والساعات المائية، فلم يعرفها العالم في مخطوطاتها الأصلية، بل وصلت إلى العالم أجمع في نسخها العربية! ونص هذا المعنى جاء في المقدمة هكذا: " ويرجع الفضل في وصول كل هذه الرسائل والكتب لنا إلى نسخها العربية". أي أن الكاتب أراد القول بأن علوم الهندسة من (هوائيات، وميكانيكا، ومضخات، وساعات مائية) عرفها العرب والمسلمون بواسطة النقل والترجمة عن علماء الغرب!!
والحقيقة أن مؤلفات الغرب الأولى – في مجال الهندسة الميكانيكية - لم تكن بهذا التأثير الكبير، الذي أرادت المقدمة تضخيمه وتفخيمه، إذا قُورنت بمؤلفات العرب والمسلمين في هذا المجال فيما بعد، عندما كانت أوروبا تعيش في عصور الظلام. وهذه الحقيقة التاريخية الجلية لم تستطع المقدمة إغفالها، فأثبتتها على استحياء، لم يخلو من خبث في الصياغة اللغوية، قائلة: "ومن المنطقي افتراض أن التكنولوجيا الأوروبية الناشئة قد استفادت من أهم الإسهامات التي توصلت إليها التكنولوجيا الإسلامية المتقدمة". وهذه العبارة تُعدّ شهادة بأن التكنولوجيا الأوروبية استفادت من التكنولوجيا الإسلامية المتقدمة، ولكنها شهادة مضطربة لا تقوم على الاعتراف الصريح، بل تقوم على (الافتراض)! حتى ولو كان هذا الافتراض منطقياً! وكأن كاتب المقدمة الأجنبي عزّ عليه الأمر؛ فلم تطاوعه صياغة لغته على الاعتراف بفضل الحضارة الإسلامية على أوروبا بصورة صريحة، فأعاد كتابة الحقيقة – التي أقرّ بها الغرب قبل الشرق – في صورة افتراضية!!
ونجد إدواردو زانون (Edoardo Zanon) في مقالته (تأويلات ومشكلات واحتمالات) – أو المقدمة الثانية للكتاب – يُبدي إعجابه بمخطوطة كتاب الأسرار، وما بها من أشكال ومخترعات رائعة. وبعد هذا الإعجاب يتناقض في أقواله؛ فيعقد مقارنة – غير متوازنة – بين رسومات المخطوطة ورسومات ليوناردو دافينشي!! فيصف رسومات المخطوطة بأنها اسكتشات لا تحتوي على تفاصيل للآلات، وأنها رسومات غير وصفية، ولا يوجد بها منظور للرسم، وما هي إلا بيان شكلي بمكونات الرسم، وأن التعبير بالرسم عن العلاقات المساحية والفراغية كان غير دقيق. أما رسومات دافينشي " فهي في الواقع لغة وصفية معبرة إلى أقصى درجة، قد تصل إلى حد التعبير عن الآلة على نحو تفوق بلاغته أحياناً لغة النص المكتوب".
وهذه المقارنة ظالمة لكتاب الأسرار ولمؤلفه خلف المرادي، لأن دافينشي (1452-1519م) جاء بعد المرادي بعدة قرون، وكان من الأوفق مقارنة المرادي بأحد الأوروبيين المعاصرين له في مجال الهندسة الميكانيكية، إن وُجد أصلاً هذا الأوروبي! كما أن دافينشي كان مشهوراً كرسام ونحات أكثر من شهرته كمهندس مثل المرادي، فكيف نقارن أعمال رسام بأعمال مهندس؟! أما النيل من قيمة رسومات المرادي ودقتها، فربما مرجعه تثمين عمل الفريق الأجنبي المحقق، وتضخيم عمله من خلال نتائجه؛ المبنية على رسومات غير دقيقة، على حد تعبير كاتب المقالة!
وعلى الرغم من هذه الإساءة إلا أن زانون في الصفحة التالية من مقالته، لم يجد بُداً من الاعتراف الصريح بروعة كتاب الأسرار – في تناقض صارخ لأقواله السابقة – قائلاً: "تكمن روعة هذه الآلات في تعقيد وصفها نصاً ورسماً في المخطوطة الأصلية، ولكن بمجرد أن نضع يدنا على مفتاح القراءة، تتضح دقة تركيب الآلات المختلفة وعبقريتها في أحيان كثيرة". وكأن الكاتب أدرك أن هذا الإعجاب يُعدّ اعترافاً صريحاً، يتناقض مع رأيه السابق، فسارع بهدم هذا الإعجاب – الذي جاء عفوياً – قائلاً: " ويستحيل في هذا الصدد أن نجزم سواء بأن التفوق التقني لهذه الآلات يرجع إلى موهبة المرادي أم أنه ثمرة تراث تقني يسبقه".
أي أن الكاتب – بوصفه أجنبياً – لا يستطيع الاعتراف بموهبة المسلم بصورة صريحة، فصاغ اعترافه هذا في صورة جازمة تحتمل أمرين: الأول أن المرادي موهوب في الهندسة الميكانيكية. والآخر، أنه نقل رسوماته من السابقين! مع ملاحظة أن الاحتمال الآخر جاء بصورة عامة – (تراث تقني يسبقه) – دون تحديد؛ مما يعني احتمال أن هذا التراث المسبوق من الممكن أن يعود إلى العلماء المسلمين أمثال بني موسى والجزري، أو يعود إلى العلماء الأوروبيين! وهكذا أراد كاتب المقالة النيل من المخطوطة، ومن صاحبها، ومن تراث المسلمين في هذا المجال!!
أما ماريو تاداي (Mario Taddei) في مقالته (تصميمات ساحرة) – أو مقدمة الكتاب الثالثة – فقد طعن في مؤلف كتاب الأسرار بصورة صريحة لا لبس فيها! حيث أبان عن وجود تضارب في كتاب الأسرار بين وصف الآلات، والطريقة التي تعمل بها هذه الآلات بصورة فعلية، وقد أورد نماذج لهذا التضارب. وعندما حاول تفسير الأمر، نفى أن يكون الناسخ هو السبب، كما نفى أن تكون الأجزاء الممزقة في المخطوطة هي السبب أيضاً. إذن لم يبق إلا احتمال واحد، وهو المؤلف خلف المرادي! الذي وجه إليه تاداي سهامه، قائلاً: "المؤلف هو المسئول الحقيقي عن هذا الخطأ، وبالتالي يمكن صياغة فرضيتين أساسيتين: الفرضية الأولى هي أن المرادي أخفى عن عمد عدداً من هذه التفاصيل – الأمر الذي كان شائعاً في ذلك الوقت – مؤكداً بذلك على أهمية الخبرة، والمعرفة لدى من يقوم بتنفيذ هذه الآلة، أما الفرضية الثانية فهي أن المؤلف قام بوصف آلة رآها، أو أنه نقل هذا الوصف من كتاب أقدم". وهكذا يكون المهندس المسلم الأندلسي (خلف المرادي)، صاحب كتاب الأسرار – في نظر تاداي الأجنبي - خبيثاً شريراً يخفي علمه عن الآخرين عامداً متعمداً، أو سارقاً فاقداً الأمانة العلمية!
تكريم قطري
كان الأمر مختلفاً تماماً بالنسبة لمسئولي هيئة المتاحف القطرية؛ حيث قاموا بتكريم مخطوطة خلف المرادي - (كتاب الأسرار) – تكريماً مستحقاً لائقاً بمخطوطة أضافت الكثير إلى تراث الحضارة الإسلامية في مجال الهندسة الميكانيكية. وتمثل هذا التكريم في تخصيص إحدى قاعات متحف الفن الإسلامي في الدوحة لعرض محتويات مخطوطة كتاب الأسرار، وما صاحبها من عروض ولوحات ومجسمات. وهذه القاعة جُهزت بأحدث وسائل العرض التكنولوجية العالمية. وفيها وُضعت شاشة عرض أساسية أفقية – كبيرة الحجم - يتحكم فيها الزائر باللمس - من خلال الضغط على الأسهم – فيتصفح مخطوطة كتاب الأسرار، ويقلب أشكال الاختراعات بألوانها البديعة – ذات الأبعاد الثلاثية - ويديرها ويفككها ويُركبها بنفسه. كما يستطيع قراءة تاريخ المخطوطة، وخطوات تحقيقها، ومراحل تركيب الأشكال وتجسيمها. وفي القاعة أيضاً طاولتان رأسيتان ذات شاشتين لاستخدام الأطفال أو طلاب المدارس، وهما شاشتان شبيهتان بالشاشة الرئيسية، وتؤديان الغرض نفسه.
وبين هذه الشاشات وُضعت عدة صناديق زجاجية كبيرة الحجم (فاترينات)، منها صندوق به صفحات مصورة بالألوان لمخطوطة كتاب الأسرار الأصلية، وصندوق آخر به مُجسم لاختراع (ساعة بثلاثة أشخاص)، وهو الشكل الحادي عشر، كما وصفه المرادي في مخطوطته، وصندوق ثالث به مجسم لاختراع (هادم الحصون)، وهو الشكل الثالث والعشرون، والذي أوردنا وصفه سابقاً. ولم تكتف هيئة المتاحف بهذه القاعة تكريماً للمخطوطة ولصاحبها، بل خصصت مساحة أخرى - من قاعة بيع التذكارات بالمتحف – لعرض نسخ الكتاب وبيعه، تلك النسخ التي خرجت في حلة فنية رائعة، حيث إن كل نسخة محفوظة داخل صندوق أنيق يحتوي على ثلاثة كتب: الأول به صورة ملونة من أصل مخطوطة الكتاب، والثاني به كتاب الأسرار مُحققاً بالعربية، والأخير ترجمة لنسخة التحقيق بالإنجليزية، إضافة إلى (CD) وهو نسخة من العرض الخاص بالكتاب، كما يُعرض في شاشات العرض بقاعة الكتاب في المتحف.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق